التصديق والهيمنة مكونا من مكونات المنهج النقدي في القرآن الكريم 6/9

الرئيسية » الأعمدة » بصائر » التصديق والهيمنة مكونا من مكونات المنهج النقدي في القرآن الكريم 6/9

حين نأخذ كلمة “الرب” في القرآن الكريم سوف نجد أنها تنفتح على أبعاد كثيرة، فالقرآن قد نزل على العرب وهم يستعملون كلمة “الرب” إزّاء هبل، واللات، والعُزّى، وقد عدّ العادّون حوالي ستين وثلاثمائة صنما حول الكعبة، وكلمة “الرب” كانت تنسحب على هذه الآلهة بشكل “أتوماتيكي”، وإذا كانت كلمة الرب مشتقّة من ربَّ يَرُبُّ، أي باشَر يُباشر وأَشرف على المصالح يُشرف، واعتنى يعتني إلى غير ذلك من المعاني(1)فإننا نجد أنّ مفهوم الربوبية يَبرز في القرآن المجيد باعتباره أيضا من الأمور التي تقوم بدور اللّحمة والسدى في مجتمع معين وإن بباطل، فرعون مثلا حين يقول: (أنا ربكم الأعلى) يبرز باعتباره يمثل لُحمة المجتمع من خلال توحيده لهذه الأمة من الناس، ولكن بشكل ضال بفعل هذه الربوبية المدعاة، وأضّل فرعون قومه وما هدى [طه، 79]، وهو مثال قد أعمل فيه القرآن المجيد آلية الهيمنة في اتصال بمفهوم الربّ  لتوسعته وتجاوز واقعه في الأذهان نحو ما هو عليه حقيقته، أي نحو التوحيد، فبعد ادعاء فرعون أنه رب المصريين الأعلى “أنا ربكم الأعلى” [النازعات، 24]، نجده ينتقل بفعل اللقاء المستأنف مع موسى عليه السلام إلى السؤال عن رب العالمين وما رب العالمين” [الشعراء، 23] فيجاب “رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين [الشعراء، 24]. لكي يختم مساره الجحودي بالاعتراف ولات حين مناص بما قرره نبي الله موسى عن الربوبية حين قال وهو يغرق آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل، كل ذلك يتم في إطار من الهيمنة المتصاعدة، ليصل في أمِّ القرآن سورة الفاتحة، إلى هذا المفهوم العظيم الذي هو “ربّ العالمين”، لدرجة أنّ هذا الذي يبرز – وإن في سياق الضلال – باعتباره توحيدًا ولُحمة وسَدى في هذه المجتمعات، نَجده لا يُفقد بل نجده يصحّح ويُنّمى إلى درجة يُصبح معها مفهوم الربوبية “ربّ العالمين” قابلا لاستيعاب الكائنات كلها والأمم كلها، والشعوب كلّها، ويدخل في منظومة قرآنية بامتياز، هي منظومة التعارف: “يأيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم [الحجرات، 13] ولكن قبل أن يصل القرآن المجيد بهؤلاء، وبالعالمين من خلالهم، إلى هذه الدرجة وإلى هذا المستوى نرى سيرورة تجاوز الأرباب الزائفة المرصوصة حول الكعبة بالردّ إلى رب هذه الكعبة والذي هو صاحب المنن والنعم على أم القرى وما حولها من خلال قوله تعالى: “فليعبدوا ربّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف” [قريش، 3-4] ثم يكون الاستيعاب تدريجيا؛ بحيث نجد التصديق والهيمنة بعد أن تمّا في هذه الاتجاهات كلها يتناميان عبر الآيات لكي يوصلانا إلى هذا المفهوم البارز الواضح المستوعب الكبير والشامل، مفهوم “ربّ العالمين” الذي يستقطب هذه الأبعاد كلّها ولكن بطريقة بنائية وتدريجية، حتى يصل بالإنسان إلى حيث يريد أن يوصله منزّل القرآن المجيد؛ “أحسن الحديث” [الزمر 23]، “أحسن ما أنزل إليكم من ربكم” [الزمر 55].

(1) – كما فصّله المصريون القدامى عمليا من خلال اتخاذ ربّ للحرب، وربّ للمحبة، ورب للحياة وآخر للممات وكأنّ هناك تخصّصات في الإشراف والرعاية.

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *