هل تقتل التكنولوجيا التقارب؟

الرئيسية » إبداع وتنمية » هل تقتل التكنولوجيا التقارب؟

هل تقتل التكنولوجيا التقارب؟

في الاجتماعات السنوية للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي التي انعقدت الأسبوع الماضي في ليما ببيرو، كان أحد المواضيع التي هيمنت على المناقشات يدور حول التباطؤ في نمو الاقتصادات الناشئة. تشكل الاقتصادات الناشئة الآن عبئاً على النمو العالمي، ويزعم كثيرون أن عصر التوسع السريع الذي شهدته هذه الاقتصادات ــ وسعيها إلى تحقيق التقارب مع مستويات الدخل في الاقتصادات المتقدمة ــ قد انتهى. تُرى هل المتشائمون على حق؟

هناك بكل تأكيد سبب للقلق ــ بدءاً بالصين. فبعد عقود من النمو بمعدل يتجاوز 10% تقريبا، تبدو الصين وكأنها تشهد تباطؤاً ملحوظاً ــ وهو التباطؤ الذي يزعم البعض أنه في واقع الأمر أسوأ مما تشير إليه الإحصاءات الرسمية.

ومن ناحية أخرى، تتعافى الاقتصادات المتقدمة مؤقتاً من أزمة عام 2008. ونتيجة لهذا فإن الفارق بين النمو في الاقتصادات الناشئة والمتقدمة ــ المجمع من بيانات صندوق النقد الدولي، والذي يضم هونغ كونغ، وسنغافورة، وكوريا الجنوبية، وتايوان إلى مجموعة الاقتصادات الناشئة ــ تضاءل إلى حد كبير. والواقع أنه بعدما كان الفارق نحو ثلاث نقاط مئوية طيلة عقدين من الزمن، ثم ارتفاعه إلى 4.8 نقاط مئوية في عام 2010، انخفض إلى 2.5 نقطة مئوية العام الماضي ومن المتوقع أن يهبط إلى 1.5 نقطة مئوية فقط هذا العام.

والسؤال إذن هو ما إذا كان الفارق في النمو سوف يظل منخفضاً كما هي حاله اليوم. يعتمد من يعتقدون أنه سوف يظل منخفضاً عادة على ثلاث حجج، وكلها تحتاج إلى بعض التدقيق والتعديل.

فأولا، يزعمون أن قدراً كبيراً من التقارب حدث بالفعل في التصنيع. وهذا صحيح، ولكنه يغفل الترابط المتبادل المتزايد بين التصنيع والخدمات، والطبيعة المتغيرة للعديد من الخدمات. فجهاز الآي باد على سبيل المثال، لا يجب أن يصنع فحسب؛ بل يحتاج أيضاً إلى خدمات الترميز. فهو في واقع الأمر منتَج ينتمي لقطاع الخدمات الحديثة أكثر من انتمائه للتصنيع.

وثانيا، يشير المضاربون على الانخفاض في الأسواق الناشئة إلى أن هذه الاقتصادات اكتسبت فوائد إنتاجية كبرى من هجرة العمالة الريفية الفائضة إلى المناطق الحضرية، وهو الفائض الذي سوف يستنفد قريبا. وهذا أيضاً صحيح. ولكنه يتجاهل حقيقة مفادها أنه لا يزال هناك احتياطي من العمالة الحضرية في القطاع غير الرسمي، والتي عند انتقالها إلى القطاع الرسمي، تصبح قادرة على تقديم دفعة إضافية للإنتاجية.

وتتلخص حجة المتشائمين الثالثة في أن الاقتصادات الناشئة لا تنفذ الإصلاحات البنيوية بالسرعة الكافية اللازمة لدعم النمو الطويل الأمد. ومرة أخرى، لا تخلو هذه الحجة من بعض الحقيقة: فالإصلاحات البنيوية مطلوبة في كل مكان. ولكن لا توجد طريقة مؤكدة لقياس وتيرة تنفيذها.

ولكن قد تكون هناك آلية رابعة ترتبط بالطبيعة المتغيرة ــ والمعَطِّلة للنظم القديمة إلى حد خطير ــ للتكنولوجيات الجديدة. فكان المحرك الرئيسي للحاق بالركب في الماضي، ولو من حيث النمو التراكمي، تحول العديد من الأنشطة في قطاعي الخدمات والتصنيع من الاقتصادات المتقدمة إلى البلدان النامية بأجور أقل.

ولكن الآن، بات من الممكن تشغيل مجموعة متنامية من الأنشطة آلياً. والمنتجات المدعمة بالترميز تكون غالباً أقل تكلفة لكل وحدة من الناتج مقارنة حتى بما قد تقدمه العمالة الرخيصة للغاية. لذا، ففي حين كانت مراكز الاتصال، على سبيل المثال، تقام في بلدان منخفضة الأجور غالبا، أصبح من الممكن الآن وضع الروبوت الذي يعمل بالكمبيوتر والذي يتولى أغلب المحادثة في نيويورك.

ولكن لا ينبغي لهذه الملاحظة أن تحجب رؤى اقتصادية أساسية ــ أو على وجه التحديد أن التجارة وموقع الإنتاج تتحدد وفقاً للميزة النسبية وليس المطلقة. فسوف يتمتع كل بلد دوماً بميزة نسبية في شيء ما؛ ولكن ذلك الشيء يتغير.

ولكن التحولات التي تحفزها التكنولوجيا والجارية حالياً قد تنذر بانقطاعات كبرى في سلاسل القيمة العالمية ــ انقطاعات تؤثر على البلدان المتقدمة والنامية على حد سواء. والواقع أننا ربما دخلنا فترة من التغير الجوهري التي قد تضعف النمو في كل مكان، مع انكماش “القديم” قبل أن يتمكن “الجديد” من احتلال المساحة الكافية.

من المؤكد أن التدمير الخلّاق الذي يحدث الآن يؤثر على نمو الاقتصاد النامي نسبياً بما يتجاوز تأثيره على نمو الاقتصاد المتقدم، وهو ما يرجع إلى حد كبير إلى حقيقة مفادها أن التكنولوجيات الجديدة يتم تشغيلها حيث اخترعت، ولم تتمكن البلدان النامية بعد من تقليدها بالقدر الكافي. ولكنني لست مقتنعاً بأن فرص “اللحاق” سوف تظل متضائلة ــ خاصة وأن التقليد سوف يظل دوماً أسهل من الاختراع.

وبوسعنا أن نزعم في واقع الأمر أن “القفزة” الجديدة قد تصبح ممكنة. فكما تُظهِر التجربة في قطاع الاتصالات، من الممكن أن تعمل القدرة على تبني التكنولوجيات الجديدة من دون الاضطرار إلى تفكيك الأنظمة القديمة أولاً على تمكين النمو السريع.

والمفتاح لتمكين التقارب المستمر ــ حتى ولو بوتيرة معتدلة السرعة ــ هو الحكم السياسي الرشيد. لذا، يتعين على حكومات البلدان النامية أن تعمل على تنفيذ السياسات الرامية إلى إدارة عملية التحول الوشيكة، مع الحفاظ في الوقت نفسه على التضامن والتماسك الاجتماعيين. وهذا هو التحدي الذي يتعين عليها أن تتصدى له في هذا الوقت الذي يتسم بقدر هائل من التشوش والارتباك.

كمال درويش, نائب رئيس مؤسسة بروكنغز – نقلا عن البيان

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *