انطلاقا من 9 مارس ومرورا بفاتح يوليوز ثم وصولا إلى 25 نونبر من السنة الماضية عرف المغرب محطات ديمقراطية بارزة كان للشباب فيها دور حاسم، سواء في تعبئة المجتمع، أو في المشاركة الفعالة بهذه المحطات، وهو ما جعلنا أمام نقاش سياسي موضوعي ومسؤول بالموازاة مع أحداث “الربيع العربي”؛ بحيث في الوقت الذي شهدت فيه معظم البلدان العربية أحداثا لا تسر ناظرا، على إثر اندلاع الاحتجاجات الشعبية، عرف المغرب “ثورة ناعمة” انخرطت فيها كل ألوان الطيف وشكل الشباب القاعدة فيها.
خلال سنة من الإصلاحات التي شارك فيها الشباب بقوة
لم يتردد العديد من الشباب المُؤطَّرين في جمعيات ومنتديات ذات طبيعة مدنية، في الآونة الأخيرة، في الانخراط بقوة في العملية الإصلاحية السياسية والدستورية، التي يشهدها المغرب حاليا بالتزامن ما بات يعرف بـ”الربيع العربي”، الذي وإن كان يختزل صورة التغييرات الكبرى التي تعرفها المنطقة العربية، وخاصة بعض الأنظمة الشمولية، إلا أنها على المستوى الوطني أظهرت مدى انخراط الشباب المغربي في العملية السياسية؛ بحيث في الوقت الذي انبرى فيه البعض إلى الخروج إلى الشوارع ومحاكاة شباب تلك البلدان التي غابت فيها الحرية والديمقراطية منذ عقود، فإن البعض الآخر فضّل الاصطفاف في إطار منتديات وجمعيات، وفي أحيان كثيرة، في أحزاب سياسية، من أجل ما أسموه “النضال من داخل المؤسسات” لتحقيق كافة المطالب الاجتماعية والسياسية، وخاصة تلك المتعلقة بهذه الفئات الحيوية من المجتمع.
“ثورة ناعمة”..
يبدو أن “الثورة”، في نسختها المغربية، والتي تجلت في اتخاذ السلطات العليا بالبلاد قرارات سياسية ودستورية أكثر جرأة، بشهادة المتتبعين والقوى العالمية، جعلت الشباب المغربي يراجع موقفه من العديد من الأمور، وعلى رأسها، “العزوف السياسي”؛ حيث إن الخطوات التي أقدم عليها ملك البلاد، والتي دشنها جلالته بكشفه عن الخطوط العريضة للإصلاح الدستوري والسياسي بخطابه المهم في 9 مارس من السنة الماضية، جعلت المجتمع المغربي، وتحديدا الفئات الشابة منه تطمئن أكثر على مستقبل البلاد والعباد، عندما أعطى الانطلاقة لإصلاحات جذرية للدستور تكرس مفهوم دولة الحق والقانون والحريات.
إنها الإصلاحات التي لم يتردد العديد من المتتبعين، ومنهم بالخصوص مواطنو دول جارة كالباحث في علم الاجتماع الجزائري، ناصر دجابي، في اعتبارها –في حينها- “خبرا جيدا بالنسبة للشعب الجزائري”، الذي يأمل في تغيير مماثل بالجزائر، مضيفا في حديث نشرته يومية “لاكروا” الفرنسية يوم 20 يونيو الماضي، أنه “إذا حقق مشروع الإصلاح نجاحا في المغرب، فإن هذا المعطى سيحتم علينا التحول بأنظارنا أكثر صوب الغرب (يقصد المغرب)، على اعتبار أن التغيير إذا تم بالكيفية المنشودة، فإنه سيكون مشابها لنظيره في المغرب، تدريجيا وسلميا”.
الباحث السوسيولوجي الجزائري اعتبر أيضا أن “الجزائريين الذين يقارنون أنفسهم طوعا بالمغاربة، كما لو تعلق الأمر بعلاقة “غيرة أخوية”، تابعوا مباشرة، وبأعداد كبيرة، خطاب الملك محمد السادس، الذي استعرض فيه الخطوط العريضة لمشروع الدستور الجديد”، منوها إلى أن المغرب “سيحتم التحرك؛ إنه خبر جيد بالنسبة للشعب الجزائري”.
إن التحرك الذي يعيشه المغرب حاليا، والذي يستمد قوته من رصيد تاريخي حافل بالممارسة الديمقراطية، والتي وإن كانت شابتها شوائب في منعرجات ومحطات سابقة، إلا أنه جعل المواطن المغربي يرنو إلى هذا الغد المشرق الذي بشّر به خطاب 9 مارس من السنة الماضية، والذي بلوره الاستفتاء الحدث لفاتح يوليوز عندما صوت المغاربة بشبه إجماع على الدستور الجديد، الذي دعا من بين ما دعا إليه، في سبيل ترسيخ دولة الحق والقانون، إلى المساواة في الحقوق والواجبات بين المغاربة جميعا، وبين الجنسين، وكذا إلى الاهتمام بالفئات الشابة، وقبل هذا وذاك، ربط ممارسة المسؤولية بالمحاسبة والعقاب، وهو ما كان يعوز الدساتير السابقة.
الشباب يريد.. المشاركة
هذا التحرك جعل فئة عريضة من الشباب ممن كانوا اتخذوا، بخاصة، مسافة بينهم وبين العمل السياسي على مستوى الأحزاب، يجدونها فرصة سانحة اليوم للدعوة إلى إعادة النظر في سياسة الأحزاب الداخلية، وإلى تجديد النخب وتداول المسؤولية الداخلية بالمنظمات الحزبية قبل المطالبة بذلك على مستوى تدبير الشأن المحلي والوطني، وعلى صعيد تحمل مختلف المسؤوليات الوظيفية الأخرى.
إنه التفاعل مع مضامين ومقتضيات الدستور الجديد الذي نص صراحة في المادة 33 على إحداث “مجلس استشاري للشباب والعمل الجمعوي”، داعيا السلطات العمومية إلى “اتخاذ التدابير الملائمة لتحقيق عدد من الأهداف؛ كـ”توسيع وتعميم مشاركة الشباب في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية للبلاد”، و”مساعدة الشباب على الاندماج في الحياة النشيطة والجمعوية، وتقديم المساعدة لأولئك الذين تعترضهم صعوبة في التكيف المدرسي أو الاجتماعي أو المهني”.
هذه الضمانة الدستورية لا شك أنها كانت المحفز للشباب على ضرورة اتخاذ المبادرة وتجاوز الخطاب الداعي إلى إحباط الهمم، أو المناصر للأفكار الهدامة الماسة بمُقدسات الوطن، والانخراط في العملية الإصلاحية التي دشنها أعلى هرم في السلطة بالبلاد، فكانت “الثورة المغربية”، مثالا يحتذي جعل المغرب “رائدا” في البلاد العربية، كما ذهب إلى ذلك الباحث الأمريكي، جويل د. هيرش، في مقال له بعنوان “المغرب: نجاح الربيع العربي”، الذي أخضع فيه خطاب 9 مارس لمشرح الخبير الأكاديمي.
ويعتبِر الباحث الجامعي الأمريكي والعضو في مجلس العلاقات الخارجية، في مقاله المنشور بصحيفة هافينغتون بوست، “أن التجربة المغربية يجب الإشادة بها، لأن مشروع الدستور يغير بشكل جذري نظام الحكامة في المغرب، من خلال إعطاء المزيد من الصلاحيات للوزير الأول، ويقر بالمساواة بين الجنسين، ويرسخ الحريات المدنية”.
واستطرد قائلا “إن المغرب بالإصلاحات الجديدة التي همت الدستور يسير على طريق الأنظمة الأوروبية الديمقراطية”، مؤكدا في ذات السياق، أن “هذا النموذج من الحكامة يشكل المستقبل”.
هذه الإشادات بمستوى المسؤولية التي تحلّت بها الدولة المغربية وإسراعها بالتفاعل مع نبض الشارع والانخراط في إصلاحات جذرية، بعكس معظم الأنظمة السياسية بالمنطقة، ستواصِل تقاطرَها على بلادنا، عندما تم إجراء الانتخابات التشريعية في 25 نونبر من السنة الماضية، والتي تزعم النتائج فيها حزبٌ سياسي معارض متقدما على أزيد من ثلاثين حزبا آخرين. هذا بالإضافة إلى تسجيل هذه الاستحقاقات حضورا قويا لنصف المجتمع (المرأة) وفئة الشباب؛ حيث تم تخصيص لائحة وطنية في الانتخابات خاصة بالنساء والشباب يُمنح فيها 60 مقعدا للمرأة و30 مقعدا لفئة الشباب دون الأربعين من العمر.
ردود الفعل الدولية لم تتأخر كثيرا في التنويه بالتجربة المغربية في مجال الديمقراطية والحكامة الجيدة، حيث أشاد مجلس الريادة لحقوق الإنسان (Leadership Council for Human Rights)، أحد أبرز المنظمات غير الحكومية الأمريكية التي تعنى بحقوق الإنسان، بالانتخابات التشريعية “النزيهة والشفافة” التي نظمها المغرب في 25 نونبر.
وهنأت المنظمة، في بيان لها، المغرب على “الانتخابات المنفتحة والشفافة التي جرت في أجواء من الحرية والنزاهة”، مذكرة بأن “هذا المسلسل الانتخابي الناجح حظي بالإشادة من قِبل حكومات الولايات المتحدة والمملكة المتحدة واسبانيا وفرنسا، وكذا من قبل الملاحظين الدوليين”، كما أن وسائل الإعلام الدولية التي تابعت الانتخابات بالمغرب، “أبرزت السير الجيد للاقتراع وللمسلسل الانتخابي”، مؤكدة في ذات السياق بأن المغرب، البلد “الهام بالنسبة لأمريكا وأوروبا”، حقق بذلك “تقدما كبيرا في المسلسل الديمقراطي”.
نفس التنويه أعربت عنه الحكومة الأمريكية، حيث جاء في بيان صادر عن وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون، غداة إجراء الاستحقاقات المغربية، قولها “أهنيء الشعب المغربي بالاستكمال الناجح للانتخابات التشريعية الجُمعة (تقصد يوم 25 نونبر2011)حيث توجه ملايين المغربيين الى صناديق الاقتراع لاختيار قادتهم السياسيين الجدد”.
وتابعت المسؤولة في البيت الأبيض؛ “الآن بات بمقدور البرلمان الجديد والمجتمع المدني العمل مع الملك محمد السادس لتطبيق الدستور المعدل كخطوة نحو الوفاء بتطلعات وحقوق جميع المغربيين”، مؤكدة أيضا أن بلادها “على استعداد للعمل مع البرلمان الجديد لتعزيز حكم القانون، ورفع معايير حقوق الانسان، وتعزيز الحكم الشفاف الذي يخضع للمحاسبة، والعمل نحو إصلاحات ديموقراطية مستدامة”.
وبحسب العديد من المتتبعين فإن المسؤولية اليوم بالمغرب ملقاة على النخبة السياسية التي ينبغي عليها العمل على التنزيل السليم لمقتضيات الدستور، بعدما قامت أعلى سلطة بالبلاد بودورها التاريخي في إدخال تلك الإصلاحات غير المسبوقة على أسمى القوانين، وهو ما يلزم على السياسيين مواكبة الخطوات العملية لجلالة الملك بخطوات أخرى لترتيب البيت الداخلي للأحزاب السياسية، ولاسيما توسيع مجال مشاركة الشباب في تسيير دواليب هذه الأحزاب وكذا في تقلد المناصب؛ وكم يحز في النفس، يستغرب أحد الفعاليات الشبابية في حديثه إلى “مسارات”، كون العديد من القيادات الحزبية لم تستطع بعد مجاراة الإيقاع الذي فرضه خطاب 9 مارس التاريخي، بل إن البعض مِن السياسيين مَن لم يستوعب الرسائل الدستورية التي أولت لفئة الشباب أهمية خاصة بالدعوة إلى إدماجهم في الحياة السياسية والاجتماعية، سواء من خلال منحهم 30 مقعدا كحصة وطنية من المقاعد داخل غرفة البرلمان، أو من خلال تنصيص الدستور على إحداث “مجلس استشاري للشباب والعمل الجمعوي”، فهل سيكون السياسيون في مستوى تطلعات الدستور الجديد الذي جاء بمكاسب مهمة لفئة الشباب؟
نورالدين اليزيد