في مستهل كتابه الموسوم “العولمة والممانعة: دراسات في المسألة الثقافية” ينفي الأستاذ عبد الإله بلقزيز وجود أي وجه من وجوه التناقض “بين وصف العولمة بأنها أعلى مراحل الإمبريالية، وأنها الإسم الحركي للأمركة، ووصفها بأنها دينامية موضوعية مستقلة عن إرادة التحكم، وأن النتائج الناجمة عنها تنعكس مكاسب وخسارات على المركز والأطراف معا..”، كما يؤكد أن النتائج والآثار الثقافية للعولمة لم تكن أقل وطأة من نتائجها وآثارها الاقتصادية والسياسية، بل ويذهب إلى أن معدل السوء فيها كان أعلى. وفي سعيه لإبراز أهمية وجدوى “التحليل الثقافي للعولمة” يحرص على إبراز الحقائق الثالية:
الحقيقة الأولى أن العولمة ليست مجرد ظاهرة اقتصادية وسياسية وتقانية فحسب، وإنما هي ظاهرة ثقافية كذلك. وتفسير ذلك أنه لما كانت “المادة الثقافية(المكتوبة والمسموعة والمشاهدة) سلعة قابلة للتداول ولدر الأرباح، فقد كانت السيطرة على المادة الثقافية؛ صناعة وتسويقا، في جملة أهداف السياسات العولمية الكبرى..”، لدرجة أن شدة العناية بالبعد الثقافي للعولمة والإنصراف إليه أوحى لكثيرين بأن العولمة إنما توشك أن تختزل في ظاهرتين ثقافيتين: الإعلام الفضائي، والإنترنت..
والحقيقة الثانية أن العولمة لم تلتجئ إلى التقانة الحديثة وأدوات الاقتصاد والتجارة والمال والسياسة والحرب، فحسب، قصد تحقيق استراتيجيتها للسيطرة والهيمنة، وإنما التجأت إل استعمال أدوات ثقافية كذلك. وهي الأدوات التي أثبتت فاعليتها ونجاعتها من الوجهتين المادية والرمزية بالنظر إلى باقي الأدوات..
أما الحقيقة الثالثة فتكمن في أن للعولمة ثقافة خاصة جرى نعتها بـ””ثقافة العولمة”؛ أي الثقافة التي تبشر بقيم العولمة، وتروج لها، وتلمع فوائدها ومكاسبها، وتداري عن مساوئها، أو تهون من آثارها. ولذلك فلم يتردد المؤلف في نعتها بـ “إيديولوجيا العولمة”؛ أي “تلك المنظومة من الأفكار والمفاهيم التي تبررها ( العولمة) وتقدمها للرأي العام في صورة البديل الإنساني الأكثر نجاعة للمستقبل”..
ومع أن هذه الحقائق الثلاث تؤكد على أهمية ومكانة البعد الثقافي في العولمة، إلا أن المؤلف يعتبر أن أكثر ما يواجه التحليل الثقافي للعولمة من اعتراض يتمثل في إمعان أصحاب هذا التحليل في رصد فعاليات الهيمنة الثقافية العولمية، وتوظيفهم لمفاهيم مشتقة من حقل الخطاب العسكري من قبيل؛ الاكتساح والاستباحة والغزو..مع ما يستبطن ذلك من مواقف أصالية هوياتية نكوصية.
وفي هذا السياق سعى المؤلف إلى مقاربة جملة من القضايا التي تطرحها “العولمة الثقافية”، أهمها؛ الثقافة الوطنية وسيادتها، ومرجعيتها، ومصادر سلطتها، وثقافة العولمة الجديدة وأدواتها الوظيفية، والصلة بين الثقافي والاقتصادي، والمضمون الثقافي والقيمي للعولمة الثقافية، والنتائج التي يمكن أن تترتب عنها في المجال الثقافي في المجتمعات التابعة، وأخيرا التفكير في المداخل الاستراتيجية المناسبة لتكييف ثقافتنا ومجتمعنا مع التحدي الذي تفرضه العولمة.
وهو ما مهد له بالتساؤل عن مصير السيادة الثقافية في ظل كل المتغيرات السالفة؟ وأسس له في القسم الأول من الكتاب؛ بالحديث عن “العولمة الثقافية والأمن الثقافي” وعن الممانعة الثقافية مفهومها ومحدداتها، وعن جدل الكوني والخصوصي في المسألة الثقافية، وعن “الحرب الثقافية” و”الانتحار الثقافي”، و”الإمبريالية الثقافية”، وعن “الأشكال الجديدة للهيمنة الأيديولوجية”..وفي القسم الثاني من الكتاب بالحديث عن “التثاقف بدلا من الانكفاء: مدخل إلى استراتيجيا ثقافية بديلة”، وفيه تناول موضوعات: “المجتمع العربي والثقافات غير العربية، والشراكة الثقافية بين العرب والغرب، والمتوسط الثقافي: من أجل تثاقف بناء بين شعوب المتوسط..
هذا عرض عام لمحتويات هذا الكتاب الهام ومحاوره الكبرى، على رجاء أن نخص قضاياه الإشكالية الكبرى بالمزيد من الطرح والمقاربة والتحليل..