هل نحن على أعتاب ثورة صناعية جديدة تطلقها الطباعة ثلاثية الأبعاد والتكنولوجيا النانوية؟ قد يبدو الابتكار الذي حققته جامعة بوردو بسيطا، ولكن أليست الاختراعات العظيمة تبدأ دائما بأفكار بسيطة؟
لنا أن نتخيل ماذا سيحصل إذا تمكنت علب الكرتون من استنساخ بصمة أصابع المستلم؟ أو أن عبوة الحليب تكون مزودة بجهاز يحدد مدى صلاحيته؟ بالتأكيد ستسهل هذه الابتكارات حياتنا كثيرا. لم يعد هذا الكلام مجرد خيال علمي، فقد ابتكر مهندسون بجامعة بوردو الأميركية طريقة لتحويل الورق إلى جهاز إلكتروني بمساعدة طابعة ثلاثية الأبعاد. وتصلح هذه الطريقة لابتكار علب “ذكية” وأشياء أخرى كثيرة.
أجهزة رخيصة الثمن
تبدأ العملية برش مادة على الورقة تجعلها مقاومة للماء. بعد ذلك توضع عليها الشبكة الإلكترونية المصنوعة من دقائق النانو. وهذه الشبكة يمكن ربطها بأي جهاز عبر تطبيق بلوتوث. وهذا الجهاز لا يحتاج إلى مصدر للطاقة، لأنه يحصل على كل ما يحتاجه من الطاقة من ضغط المستخدم على “لوحة المفاتيح”، حيث خلالها تتولد إلى حد 300 ميكروواط لكل سنتمتر مربع.
وهذه الأجهزة الورقية لا تتأثر بالرطوبة والحرارة والغبار. علاوة على أنه يمكن طيها بسهولة كأي ورقة، ورغم ذلك تبقى محافظة على جميع خصائصها العملية. ويؤكد المبتكرون أن تقنية إنتاج الإلكترونيات الورقية غير مكلفة. لذلك يتوقعون أن تكون الأجهزة الجديدة رخيصة الثمن؛ أقل من 0.25 دولار للقطعة. وقد استعرض المهندسون ابتكارهم بطبعهم على ورقة عادية لوحة تحكم بجهاز موسيقى، يسمح بالتحكم بمستوى الصوت وإعادة التشغيل.
ما هي تكنولوجيا النانو التي اعتمدها العلماء لإنجاز هذا الابتكار؟
تحظى تكنولوجيا النانو بشهرة كبيرة، خاصة بين المهتمين بالتكنولوجيا وتطوراتها، فهذه التقنية تتعامل مع المكونات الصغيرة جدا والتي تقاس بمقياس خاص يسمى “النانومتر”، ويتضمن الأبعاد التي يبلغ طولها نانومترا واحدا إلى 100 نانومتر.
وفي هذا الصدد يتوقع الكثير من الخبراء أن تشهد الفترة المُقبلة ظهور مكونات متناهية الصغر تُساعد في اكتشاف الأمراض وإتمام العمليات الجراحية، وهناك أيضا اتجاهات أخرى لهذه التقنية تُساهم في تشكيل مستقبلنا وطرق جديدة لاستخدام الأشياء في حياتنا اليومية، ولعل أبرز هذه الاتجاهات التعلم الذاتي والحوسبة السحابية وغيرهما.
ومن الجدير بالذكر أنّ مصطلح تقنية النانو أو تكنولوجيا النانو يتعلق بالفهم الأساسي للخصائص الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية على المقاييس الذرية والجزيئية، والتحكم بهذه الخصائص الخاضعة للرقابة لإنشاء مواد وأنظمة وظيفية ذات قدرات فريدة.
تطبيقات شاملة
بدأت الأفكار والمفاهيم تتكون لعلم وتكنولوجيا النانو قبل فترة طويلة من استخدامه، وذلك عندما اقترح الفيزيائي ريتشارد فاينمان، في اجتماع الجمعية الأميركية للفيزياء في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في التاسع والعشرين من شهر ديسمبر في عام 1959، موضوعا بعنوان “هناك حيز كبير في القاع” حيث قام فاينمان بوصف عملية يتمكن فيها العلماء من التحكم والتأثير على الذرات الفردية والجزيئات، وبعد عقد من استكشافه للمعالجة الآلية فائقة الدقة قام نوريو تانيجوتشي بابتكار مصطلح تكنولوجيا النانو.
ومع تطوير “مجهر المسح النفقي” الذي يمكن من خلاله رؤية الذرات الفردية الصغيرة، عام 1981، بدأت التطبيقات التكنولوجيا النانوية في الظهور.
وتوفر تكنولوجيا النانو العديد من الفوائد التي يمكن أن نجد لها تطبيقات في مختلف المجالات الحياتية، فهي تساعد على تحسين العديد من القطاعات التكنولوجية والصناعية إلى حد كبير، مثل: تكنولوجيا المعلومات، والطاقة، والطب، والأمن الوطني، وعلوم البيئة، وسلامة الأغذية، والعديد من الأمور الأخرى، كما أنها تعمل على تكييف هياكل المواد في مقاييس صغيرة جدا لتحقيق خصائص محددة لها، حيث يمكن من خلالها تقوية فعالية المواد، وفي نفس الوقت تكون خفيفة الوزن، وأكثر متانة، وتفاعلا وتشابكا.
والعديد من المنتجات التجارية اليومية الموجودة في السوق تعتمد على تكنولوجيا النانو، فعلى سبيل المثال تساعد الأغشية أو الطبقة الرقيقة النانوية الشفافة على شاشات الكمبيوتر، والكاميرا، والنظارات، والنوافذ، والأسطح الأخرى، بجعلها مقاومة للماء، ومضادة للانعكاس، ومقاومة للأشعة فوق البنفسجية أو الأشعة تحت الحمراء، أو مقاومة للخدش، أو موصلة للكهرباء.
كما دخلت تكنولوجيا النانو في المنتجات الاستهلاكية، حيث تم ربط المليارات من شعيرات النانو المجهرية التي يبلغ طول كل منها حوالي 10 نانومتر، جزيئيا على الألياف الطبيعية والاصطناعية لإضافة خاصية مقاومة البقع في الملابس والأقمشة، كما أنه تم استخدام البلورات النانوية أكسيد الزنك لصنع واق من أشعة الشمس غير مرئية، فهي تحمي من الأشعة فوق البنفسجية، كما أنه قد تم تضمين البلورات الفضية النانوية في الضمادات لقتل البكتيريا ومنع العدوى.
الابتكار الجديد الذي حققه المهندسون في جامعة بوردو، بتحويلهم الورق إلى جهاز إلكتروني، قد يفتح الباب قريبا إلى ثورة صناعية جديدة خاصة إذا ما أخذنا بالاعتبار تدني كلفة الأجهزة المنفذة بهذه الطريقة، والتي لن تتجاوز مبلغ ربع دولار في الغالب. إضافة إلى ما قد تساهم فيه تلك المبتكرات من تقليل في تلوث البيئة.
العرب