مشاكل العالم تستدعي حلولا تقنية وأخلاقية في آن

الرئيسية » تربية وتكوين » مشاكل العالم تستدعي حلولا تقنية وأخلاقية في آن

 خالد حاجي

لائحة عريضة من العناوين التي يحفل بها هذا الحوار، مع المفكر المغربي خالد حاجي، من  الرسائل الفنية والأدبية والفكرية التي جاءت في آخر أعماله الروائية (رواية “عبد الرحمن والبحر” وصدرت عن المركز الثقافي العربي)، إلى قراءة المعارك السياسية والسياسية التي اندلعت خلال السنين الأخيرة في القارة الأوروبية بخصوص التعامل مع موضوع الهويات الوطنية، ومنها قضايا أزمة المآذن، قلاقل النقاب.

ما يُميز أعمال خالد حاجي ـ والتي تعرفنا عليها في دراساته التي كانت تُنشر في مجلة “المنعطف” المغربية، أو التي جاءت في كتابه القيّم “من مضايق الحداثة إلى فضاء الإبداع الإسلامي والعربي” (الصادر عن المركز الثقافي العربي)، أو مداخلته في أنشطة “منتدى الحكمة للمفكرين والباحثين” ـ أنها حافلة بالأسئلة والأجوبة في آن: لسنا أمام جهاز مفاهيمي يحتكر النطق باسم “الحقيقة العلمية”، وإنما أمام جهاز مفاهيمي يفاجئك بأسئلة مضادة، مؤسسة في الغالب الأعم على شعار/خيار “النقد المزدوج”، ويُدلي فيما بعد باجتهادات معرفية، من باب الإسهام في البحث عن أجوبة عملية على أسئلته وأسئلتنا في آن، ومُجمل الأسئلة الراهنة التي تؤرق بال العقل العربي الإسلامي المعاصر والعقل الغربي المعاصر.

هذه بعض مقدمات الحوار..

+ أشرتم في خاتمة مبحث “الجميل والقبيح” الصادر مؤخرا في شهرية “الدوحة” (ضمن ملف حول “احتلال العقول”) إلى أنه مع ابن عربي، نجد الحضارة الإسلامية تستوعب الآخر استيعاب مُحبّ، وعند ابن تيمية، ومن خلال استقراء لاميته التي يتحدث فيها عن أصول الاعتقاد والمذهب وغيره، نصطدم بروح انغلاق تعكس سياقا آخر يسود فيه الحرص على ترسيخ العقيدة والوجود العقدي للأمة.

هل يمكن لانفتاح خطاب ابن عربي، نموذجا، أن يفسر لنا بعض أو أهم أسباب ولع العديد من الغربيين بالخطاب الصوفي، إلى درجة اعتناق بعضهم للإسلام؟

++ بداية، أود الإشارة إلى أنني بالوقوف عند ابن عربي وابن تيمية لا أصدر عن محور الاستقطاب المعهود الذي يملي المفاضلة بينهما، بقدر ما أروم التنبيه على طبيعة السياق الذي أنتج كلا منهما، داعيا إلى الاستفادة من تجربتيهما، ومن تجارب أخرى كثيرة، انطلاقا من موقعنا نحن اليوم كذات حية لها أسئلة جديدة، تقتضي تركيب أجوبة جديدة. ففكر ابن تيمية وبلاغته يُجسّدان مرحلة من مراحل الحضارة الإسلامية، حيث كان الحرص على تثبيت الهوية العقدية للأمة مشروعا أمام تحديات الواقع ومداهمة القوى الخارجية. أما فكر ابن عربي فيعكس مرحلة من مراحل انفتاح الحضارة العربية الإسلامية وإقبالها على الآخر بروح انفتاح عالية.

المقصود من وراء هذا الحديث هو لفت الانتباه إلى حقيقة مغيبة مؤداها أنه لا توجد حضارة يلازمها الانفتاح ملازمة جوهرية، وأخرى يلازمها الانغلاق ملازمة جوهرية. بل كل حضارة تعرف سياق انغلاق وسياق انفتاح تمليها موازين القوى والعلاقة مع المحيط الخارجي.

ولا عجب في أن يجد الغربيون في خطاب ابن عربي، أو الخطاب الصوفي عموما، مَنفَذا للتمفصل مع الحضارة العربية والإسلامية ومدخلا للتعارف معها، حتى أن بعضهم كتب “إما أن يكون الإسلام روحيا/صوفيا أو لن يكون” (إيريك جوفروا). فهؤلاء يجدون في بلاغة التصوف ما به يؤلفون بين الانتماء الثقافي والحضاري للغرب من جهة، وبين الانتماء العقدي والروحي للإسلام من جهة أخرى. من الطبيعي جدا أن يرفض هؤلاء كل أنواع التوسع في بلاغة العقيدة التي تلغى  معها تجاربهم الفنية والروحية والفلسفية التي كانت هي الأصل في التقائهم بالإسلام، ويلوذون ببلاغة الانزياح الصوفية التي تستوعب الكثير من التجارب المتناقضة تحت لواء الإسلام ورايته. حقيقة أن التوسع في بلاغة العقيدة يربط بين عقيدة التوحيد المقبولة والمرحب بها من طرف الكثير من الغربيين، وبين أشكال ثقافية غريبة ومرفوضة. لذلك فباللجوء إلى بلاغة التصوف يطلبون بلاغة تفصل بين عقيدة التوحيد وبين بعض الأشكال الثقافية المستصحبة من العالم الإسلامي.

غير أنه، وبالمقابل، لا يخفى أن هناك قوى غربية نافذة في عالم السياسة والاستراتيجية، ومقربة من مراكز صنع القرار، قوى ترى في التصوف الحلقة الأضعف في الحضارة الإسلامية وبالتالي المدخل المناسب لإخضاع أبناء هذه الحضارة ثقافيا واقتصاديا وسياسيا لنفوذ العولمة والسياسات الغربية. نشير هنا إلى برنارد لويس وكتابه عن الإسلام والحداثة، وكيف أن هذا المفكر يعلي من شأن التصوف على حساب السلفية لأغراض لا علاقة لها بتطلعات المتصوفة وتشوفاتهم…لا عجب أن يختار حراس عقائد الغرب السياسية والدينية الاشتغال على التصوف بغرض تحقيق التمفصل مع العالم العربي والإسلامي تمفصلا يضمن نشر قيم الغرب وتفوق منظومته الحضارية.

إذا كان الغربيون يجدون في بلاغة التصوف ما يشجعهم على الاقتراب من الإسلام ومنظومته الروحية وتجاربه الثقافية والحضارية، فما عسانا نحن نجد في هذه البلاغة؟ بغض النظر عن تنوع التجارب الصوفية وتفاوت أصحابها من حيث الورع والصدق وإخلاص النية، يظل التصوف جزء من التراث والواقع الإسلامي لا سبيل إلى إقصائه. بعيدا عن السقوط في تنزيه التصوف وأصحابه، أو تبديعهم وتكفيرهم، نحتاج إلى روح نقدية جديدة تتوخى التقاط الأسئلة الجوهرية التي حاول المتصوفة الإجابة عنها، فالإفادة منها. ولعل أهم سؤال يواجه به المتصوف المنظومة الفقهية الإسلامية هو السؤال المتعلق بصيغ التوفيق بين “المغلق والمطلق”، بين الداخل والخارج. هذا سؤال يطرح في كل السياقات الحضارية، على اختلاف الحضارات.

ولعل حظوظ الحضارات، ومنها الحضارة الإسلامية، في التوسع والاستمرار، تكبر وتصغر بحسب قدرتها على التقاط هذا السؤال ثم الإجابة عنه. إذا كان الفقهاء في المنظومة الحضارية الإسلامية هم فرسان المغلق، أو الداخل؛ فإن المتصوفة هم فرسان المطلق، أو الخارج. والحضارة الإسلامية تبلغ ذروتها حين يتم التواصل بين هؤلاء.

إن التناغم بين الفقه والتصوف يعين العقل العربي الإسلامي في تحصيل أسباب وسبل الانفتاح، كما يدفع إمكان الوقوع في آفة الانحلال. أما من الناحية الإجتماعية والسياسية، فما أحوج المجتمعات العربية والإسلامية إلى خطاب يمزج بين الفقه والتصوف مزجا يخلق أجواء الانفراج، تفاديا لأسباب الانفجار.

في واقع ا لأمر، إن سؤال التصوف، مثل سؤال المرأة والفن والأقليات، يضع المجتمعات العربية والمسلمة في زمن العولمة أمام خيارين لا ثالث معهما: إما الانفراج أو الانفجار. فأما التفريج فيأتي من الداخل، بفضل قوى ذكية وحكيمة؛ وأما التفجير فيأتي من الخارج، بفعل قوى متربصة. وعلينا نحن أن نختار. والمسؤولية هنا طبعا لا تقع على عاتق الشعب دون الحكام، ولا على عاتق الفرد دون الجماعة…إنها مسؤولية الجميع، مسؤولية حضارية مشتركة.

+ نقرأ للمفكر الجزائري محمد أركون في كتابه “قضايا في نقد العقل الديني”، أن “تجاوز التضاد بين الحضارات لم يتم عبر الدعوة إلى اتباع الروحانية والأخلاق، لأن المواعظ الأخلاقية لا تحل شيئا”، مضيفا أن “الأخلاق التقليدية عفا عليها الزمن ولم تعد قادرة على التأثير في الحياة الحديثة، بحكم مقتضيات الاتجاه اليوم، نحو فضاء جديد للمعرفة والتأويل والممارسة العملية”.

كيف تقرؤون هذا التقييم الأركوني؟

++ يصح كلام أركون من وجه، وقد لا يصح من وجوه. ولعل القول بعدم قدرة الخطاب الأخلاقي على حلّ مشاكلنا في عالم اليوم، يجب ألا يكون مسوغا للدعوة إلى نبذ الأخلاق، أو طرح الدعوة إليها جانبا. حين نتحدث عن الأخلاق إنما نتحدث عن منطق النبوة القائم على أساسين اثنين: الأمل والشهود. فأما الأمل فمصدره الإيمان القوي في الممكن، في إمكان أن يحمل الغيب ما يغير سياق الأمور؛ وأما الشهود فمعناه أن أصحاب الدعوة الأخلاقية، على خلاف الفاعلين السياسيين، لا يطلبون الفعالية السياسية، بقدر ما ينبهون الناس إلى ضرورة الأخلاق لأجل تجنب ما قد تكسبه أيديهم من قوارع وتجنيه صناعتهم من كوارث. قد يُلتفَت إلى الخطاب الأخلاقي وقد لا يُلتَفت إليه! هذا الخطاب يضع الناس أمام مسؤولياتهم، وعليهم أن يختاروا.

وأما ما يبشر به أركون من “فضاء جديد للمعرفة والتأويل والممارسة العملية”، فهذه أمور إذا لم تزد الطينة بلة وتُعجّل بنهاية الحضارة وكساد العمران، فهي لن تحدث تغييرا يذكر. فهل عند أركون وصفة عملية لحل المشاكل المستعصية في عالم البيئة والسياسة والعلاقات الدولية اليوم فيخرجها لنا! غاية ما يدعونا إليه هو الاستسلام لموازين القوى العالمية والرضوخ للنظام القائم تحت ذريعة الامتثال للأمر الواقع. والحقيقة أن الدعوة إلى الامتثال إلى الواقع دعوة لا تخلو من صواب متى ما جاءت مشفوعة بالدعوة إلى الأخلاق. وما المانع في أن نجمع اليوم بين “المعرفة والتأويل والممارسة العملية” وبين الدعوة إلى الأخلاق! مشاكل العالم اليوم لا تستدعي حلولا تقنية فقط، بل أكثر ما تستدعيه حلولا أخلاقية بالدرجة الأولى. فالإنسان كائن أخلاقي…قد تبلى أشكال الوعي وأنماط تمثل الأخلاق، ولكن لا تبلى الأخلاق. وقد نتفق مع أركون لو كان المقصود بـ”الأخلاق التقليدية” الوعي التقليدي بسؤال الأخلاق. هناك ضرورة لتحديث سؤال الأخلاق على ضوء مستجدات الواقع الكوني.

+ تبنّيتم بشكل صريح، في كتاب “من مضايق الحداثة إلى فضاء الإبداع الإسلامي والعربي“، خيار النقد المزدوج للعقل العربي الإسلامي والعقل الغربي في آن، وفي إطار النقد الموجه للعقل الأول، استشهدتم مثلا، بطبيعة التناول الإعلامي العربي لذكري مرور ثلاثين سنة على اندلاع ثورة 68، حيث استنتجتم أننا لا نملك الشجاعة الكافية لنتحول إلى دارسين لتاريخ الغرب ولحضارته.

منْ مِنَ المسلمين اليوم، يبقى مُؤهّلا أكثر لتولي هذه المهمة الأخلاقية والمعرفية في آن؟

++ لماذا الطاووس لا يحسن الغناء، على الرغم من جمال صورته وريشه؟ عن هذا السؤال يجيب المثل العامي المغربي بأن السبب في قبح صوت هذا الطائر هو قبح رجليه. حين ينظر المسكين إلى رجليه ويقارن قبحهما بجمال ريشه، يشق عليه الأمر فيبدأ في العويل والصراخ، عوض الغناء مثل باقي الطيور. صرخة الطاووس ليست صرخة المزهو بنفسه، بقدر ما هي انتحاب اليائس من الطمع في تمام الجمال وكماله. ينطبق مثل الطاووس علينا، شرقا وغربا، مسلمين وغير مسلمين، عرب وغيرهم. فما أحوجنا إلى النظر إلى مواطن القبح فينا حتى لا نكون ضحية الانتشاء بالذات والزهو بالنفس. لا يخلو أحد من العيوب. لا الذات منزهة عن الخطأ ولا الآخر. من هنا يصح توجيه النقد إليهما معا. من العبث توجيه النقد للآخر بغرض تنزيه الذات، أو العكس. فحيثما وليت وجهك وجدت ما يستحق النقد.

هناك خط رفيع يفصل بين النقد المتبصر والنقد المتهافت، سواء نقد الواقع الغربي أو نقد الواقع العربي الإسلامي. فالنقد لن يكون نقدا بناء إلا إذا انبنى على معرفة بموضوع النقد. ومن الواضح أن الكثير من النقد عندنا ينبني على جهل، وتدفع أصحابه الرغبة في احتلال المواقع.

صحيح أن الخطاب الأخلاقي لا يُجَسّده حزب أو جماعة أو جهة معينة. دعاة الأخلاق يعتبرون أنفسهم مجرد إصبع يشير إلى حقيقة متعالية، كلما برزت هذه الحقيقة وتجلت في الأذهان اختفوا عن الأنظار. وهؤلاء موجودون في كل أرجاء العالم، في كل الأحياز الثقافية والحضارية. قد يكون من المبالغة ربط البطولة الأخلاقية بالمسلمين. من ينظر إلى واقعنا يجد أننا لا نقدم نموذجا أخلاقيا متماسكا. بل قد نكون أبعد من غيرنا، متدينين وغير متدينين، امتثالا للأخلاق التي نُبشّر بها في حياتنا وسلوكنا. وصحيح أيضا أن الغرب لم يعد يقدم نموذجا للأخلاق. لذلك فالمطلوب هو تحقيق قدر من التوافق الأخلاقي حول مجموعة من السلوكيات والأفعال بغرض تحديد وجهة لخلاص العالم؛ لم يعد المطلوب هو الإثبات النظري أو الإفحام العقلي بجدوى وأحقية “الأخلاق الإسلامية”، أو “الأخلاق المسيحية” أو “الأخلاق العلمانية”. الأمر أثقل من أن ينهض به أتباع ملة واحدة، أو شعب واحد، أو جهة واحدة. والحق أن أكثر أنواع النقد الأخلاقي عندنا نفاذا وعمقا، هي أكثرها اطلاعا على الفكر الغربي وتتبعا للنقد الغربي ذاته للحضارة. لا يمكننا نقد الواقع الحضاري الحالي نقدا أخلاقيا دون تحصيل وعي شامل بالواقع الحديث، والغرب كما لا يخفى أكثر التصاقا بهذا الواقع، صنعا وتأثيرا وتحويرا ونقدا.

أما بخصوص معظلة الفتاوى، فهذا موضوع آخر. ظني أن أهمية الفقه لا تكمن في صياغة الفتوى فحسب، بل الأهم هو تأطير السؤال. نحن في حاجة ماسة إلى ذهنية فقهية تحدد مجالات الاسئلة بحسب السياق. كثيرا ما أفاجأ هنا في أوربا بأسئلة غريبة أظن أن السبب وراء طرحها هو الذهنية الفقهية الموجودة. أليس غريبا أن يسأل بعض الشباب في أوربا “هل يجوز إفشاء السلام أو مد اليد إلى الجار غير المسلم؟” هذا سؤال مستورد من بيئة آخرى، من فضاء ثقافي ومكان حضاري بعيدين، ولربما قد يجده طارحوه في كتب قديمة مرتبطة بسياق آخر، أو يصدرون في طرحه عن تصورات تحكمها روح التشنج في العلاقة بين الذات والآخر… لو بقي الإنسان على فطرته، لما طرح هذا السؤال إطلاقا. فهذا السؤال يبدو سؤالا خارج الزمن وخارج المكان، وبعيدا عن المنطق العقلي السليم. حتى والفقيه يفتي بجواز إفشاء السلام على الجار غير المسلم، يكون في الجواب مضيعة للوقت والجهد، وظهور بمظهر غير لائق بالمسلم. فمشكلتنا ليست في طبيعة الفتاوى الغريبة التي تصدر هنا وهناك، بقدر ما هي مشكلة عجز عن تأطير العقل المسلم وترقيته إلى درجة يحسن معها طرح السؤال واختياره. وظني أنه لن يتأتى لنا هذا الأمر حتى نرفع جاهزية المسلم الثقافية ونمكنه من التواصل مع العالم الحديث المحيط به ونرسخ وعيه بحيثيات السياق التاريخي الراهن.

+ تنتهي روايتك الأخيرة “عبد الرحمن والبحر”، برؤى تفاؤلية، في عمل إبداعي مليء بالتساؤلات والرموز والأسئلة المعلقة، ويعرف تشابكا بين عوامل الذات والغير (الآخر)، ومقتضيات علاقتنا بأسئلة الحداثة، دون الحديث عن قلاقل تشابك إنسانية المسلم (والعربي) مع إنسانية الغربي، أو دلالات استلهام والإحالة على عبد الرحمن المجذوب وابن خلدون ونيتشه من خلال شخصية زارادشت وحي بن يقظان..؟

هل نحن إزاء عمل روائي صرف، أم إزاء عمل فلسفي تحت غطاء روائي على غرار رائعة “عالم صوفي”، للروائي النرويجي جوستن غاردر، وإذا كان الأمر كذلك، وهو ما نرجحه، فلماذا هذه الانعطافة على عمل روائي، عوض الاقتصار على تحرير متن فلسفي أو فكري صريح؟

++ رواية “عبد الرحمن والبحر” هي محاولة لمد الجسور ما بين الذات و”آخَرِها”، محاولة لتعيين سبل الخروج الصحيح من عالم الصمت إلى عالم الصوت، ومن مغارة التعبد نحو شطآن العشق، من التراث إلى الحداثة… الطريق صعب ومحفوف بالمخاطر والمهالك، وأسباب التشاؤم أقوى من أسباب التفاؤل. غير أن الأحداث تتناهي بعبد الرحمن إلى ضفاف الأمل، فيعيش على الأمل في أن يجد في مقبل أيامه ما يسعفه في التوليف بين متناقضات الروح والجمع بين أطرافها الموزعة بين ميولات وأهواء متنافرة.

البعد الصوفي حاضر بقوة في الرواية. فعبد الرحمن ينتقل من مقام إلى آخر، ومن حال إلى حال. تتقلب به الأيام من وضع إلى وضع، من مكان إلى مكان، من لقاء أناس إلى لقاء أناس آخرين؛ ولعل هذا التقلب ذاته هو أهم عنصر من عناصر صنع الحبكة الدرامية ونسج خيوط الرواية. ولعله لا مجال لإخفاء مظاهر التأثر بشخصية عبد الرحمن المجذوب وزرادشت وحي بن يقظان وغيرها من الشخصيات التي تحسب على ضرب من ضروب التصوف بمعناه العام.

ولعل السر في لجوئي إلى الرواية، عوضا عن الاكتفاء بالمتن الفكري أو الفلسفي الصريح، هو شعور بوجود رسائل لا ينقلها إلا القالب الفني، الروائي والشاعري. باللجوء إلى الحجج والبراهين وأنواع الاستدلال المختلفة إنما يخاطب الإنسان عقل القارئ ويتوخى بلوغ النتائج المفحمة لهذا العقل. أما باللجوء إلى القالب الفني، خصوصا ما تعلق منه بفنون الكلمة، فالكاتب يخاطب مخيلة القارئ وينفذ إلى أعماق من الروح فيحرك ساكنها ويسكن متحركها. وجدت في القالب الروائي ما يوسع حيز البيان، ومع التوسع في البيان تزيد إنسانية الإنسان سعة، ذلك أن ما يميز هذا الإنسان عن سائر المخلوقات هو كونه كائنا بيانيا. يفهم العالم ويعبر عنه بواسطة الكلمة وأشكالها وفنونها، ومنها فن الرواية.

منتصر حمادة


شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *