تمثل ذاكرة الإنسان رصيده من تجارب وخبرات الحياة، بحلوها ومرها . وتلعب الذكريات بنوعيها دوراً مهماً في سلوكياتنا، وتشكل الذكريات الأليمة عائقاً أمام كثيرين منا في مسيرتهم الحياتية . وبحسب علماء النفس، فإن “متلازمة اضطرابات ما بعد الصدمة” (PTSD) تخزن في ذاكرة الإنسان، ويعمل العلاج النفسي بفاعلية أكثر إذا كانت الصدمات المؤلمة قد تعرض لها الإنسان حديثاً، وتقل فاعليته مع الصدمات القديمة، بيد أن دراسة حديثة أجريت على الفئران، أثبتت أن تطوير جزيئات الحامض النووي في الإنسان يمكن أن يخلصه من الذكريات المؤلمة قديمة كانت أم حديثة .
من طرق العلاج النفسية العلاج بالمواجهة، إذ يطلب المعالج من المريض تذكر حدث مؤلم ومواجهته، وفي كل مرة تتسلل الذكريات المؤلمة إلى مخ المريض يمكنه تطويعها وإعادة تشكيلها عبر ظاهرة معروفة لدى علماء النفس باسم “إعادة دمج وتوحيد الذاكرة”.
وكلما استرجع المريض حدثاً مؤلماً، مثل حادث سيارة، تنفصل تفاصيل الواقعة، مثل لون وماركة السيارة، تدريجياً عن الشعور بالقلق، ما يقلص احتمال تأثره بصدمة عصبية حال مروره بتجربة مماثلة كرؤيته سيارة من نفس النوع.
وخلال جلسات العلاج المتكررة، تتبدد الذكريات السيئة التي يرتبط فيها الخوف بحدث ما، وتحل ذكريات جديدة محل أخرى قديمة . بيد أن الخبراء يرون أن هذه الآلية تنجح فقط مع الذكريات الحديثة، فإذا مر وقت طويل من دون تدخل متخصص، فالذكريات المؤلمة تصبح على درجة شديدة من الرسوخ يصعب معها إزاحتها من المخ، ويثير ذلك تساؤلاً حول كيفية إدراك المخ عمر ذكرى ما .
أعلن باحثون في معهد “ماساتشوستس” للتقنية، بقيادة عالم الأعصاب “لي هوي تساي” إمكانية تطوير الحمض النووي في الفئران كيميائياً بما ينظم نشاط الجينات لتتمكن من إدراك عمر الذكريات، قديمة أم حديثة . وباستخدام عقار، تمكن الباحثون من إعادة تشكيل الذكريات القديمة والتخلص من المخاوف المحيطة بأحداثها.
وأثبتت دراسات عدة أن التغير الجيني يلعب دوراً مهماً في أنشطة كثيرة أهمها التعلم، بحسب جيلينا رادولوفيك، أستاذة علم النفس والعقاقير الجزيئية في كلية طب “فينبرج” في جامعة نورثويسترن في شيكاغو، التي تشير إلى أن إحداث تغيير في إنزيمات HDAC2، الراعية للجينات في منطقة الحصين في دماغ الفأر يؤثر في جينات أخرى لها دورها المهم في عملية إعادة دمج وتوحيد الذاكرة . وعندما أبطل تساي وفريقه عمل إنزيمات HDAC2 باستخدام عقار معين، تمكنوا من إعادة دمج وتوحيد الذكريات القديمة البعيدة التي حدثت بعد العلاج النفسي . وهكذا فإن القلق الناتج عن مصائب الماضي تم مسحه تماماً، مثلما حدث مع القلق الناتج عن الذكريات المؤلمة الحديثة . وتتشابه هذه النتائج مع الكشف عما يعرفه علماء النفس بالمرونة العصبية، التي تعني إمكانية إحداث تغييرات في جينات وتركيب الخلايا العصبية داخل منطقة الحصين في الدماغ والتي تؤشر إلى إمكانية إعادة صياغة الذاكرة . كما تمكن الباحثون خلال عدة تجارب من تعزيز عملية حرق الجلوكوز في منطقة الحصين، ومن ثم تحفيز عملية التعلم.
وتعد الدراسة الأولى من نوعها التي تمكنت من إضعاف الذكريات القديمة المؤلمة في نموذج حيواني.
وإذا طبقت نتائجها على الإنسان، بحسب كيري ريسلر، أستاذ علم النفس في جامعة “إيموري” في أطلنطا، فإن الاستخدامات المحتملة لمثبطات إنزيمات HDAC سوف تتجاوز إلى ما وراء اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) . ويضيف: الفكرة الأساسية للعلاج النفسي بالمواجهة تعيقها اضطرابات متعددة مرتبطة بمشاعر القلق والخوف، مثل الخوف من المرتفعات، حيث تحتل ذكريات الخوف مكاناً نائياً داخل الذاكرة . وتناول دواء إلى جانب العلاج النفسي لتقوية استرداد الذكريات، قد يمكن الباحثين من سبر أغوار هذه المناطق من الذاكرة التي طمرت في طياتها ذكريات الخوف، كما سوف تقلل أيضاً من عدد الجلسات العلاجية التي يحتاجها المريض لتبديد مخاوفه ومشاعر القلق المسيطرة عليه.
الخليج