المقدّمة:
لم يعتقد المؤلفان أنه سيكون للأزمة الاقتصادية، التي حلّت بالعالم في عام 2008م، أثر كبير على مسار كتابهما وهما يُكملان النصف الأول من تأليفه، وأن أسوأ ما كان يخطر ببالهما هو أن تأثير الأزمة على رؤيتهما حول الجامعات يكمن فقط في خفض حجم المخصصات الجامعية، إلاّ أن التفاعلات المحيطة بهما أبرزت الدور الحرج المنوط بالجامعات البحثية؛ لإعادة تشكيل الولايات المتحدة الأمريكية والعالم بأسره، ليس فقط في إطار الاقتصاد، وإنما أيضاً في التصدِّي للتحديات الكبرى؛ فالجامعات تتحمَّل مسؤولية رئيسة، بوصفها محرَّكات للابتكار والإبداع.
ورأى المؤلفان أن هناك نقطة مشتركة بين (الابتكار) و(الوسط الأكاديمي)، وهي أن التأثير الأعظم يتحقَّق عند الاستجابة لمشكلة ما؛ فيمكن أن يدفع (الابتكار) القائم على حل المشكلة بالموارد من مختلف التخصُّصات لتلتقي في تركيز على التحدِّي القائم، لتصنع معرفة جديدة، ومن ثمَّ تحقق النموَّ الاقتصادي. أما أبرز النقاط التي تجعل الجامعات الأمريكية محطَّ الأنظار في أوقات الأزمات، فهي الإمكانات المتاحة لها ماديًّا ومعنويًّا، كما أن رأس المال البشري، هو قلب هذه المؤسسات وروحها على الأصعدة المهنية والتعليمية والبحثية؛ فأفضل العقول في مختلف المجالات تنجذب إلى الرحاب الأكاديمية لأسباب اقتصادية وثقافية.
واستعرض المؤلفان علاقة الابتكار والريادة، وتدرجهما في التاريخ الأمريكي، حيث خلصا إلى أن أفضل ما جاء به الابتكار والريادة بوصفهما بداية عصر التغيير، هو الجامعات البحثية، والأمريكية منها على وجه الخصوص. أما السؤال الذي يطرحه المؤلفان فهو: (هل الجامعات البحثية الأمريكية جاهزة لتولِّي المسؤولية الملقاة على عاتقها؟)، وهما يجيبان – دون تردُّد – أن ليس أمامها خيار آخر، فلا بدَّ لها من أن تواجه التحدِّي في هذه المرحلة التاريخية، وأن أيَّ عجز في ذلك، هو بمثابة تسليم القطاع الخاص والحكومة دوراً، الأجدر أن تقوم به الجامعات، وعليه تعتمد جدواها على المدى الطويل.
وحسب المؤلفين، فإن الجامعات الأمريكية جاهزة للقيام بهذه المهمة الشاقة، على الرغم من شعورهما بأن هناك عنصراً مفقوداً، وهو (فكر ريادة الأعمال)، حيث إنه يزداد تأثير (الابتكار) عند زيادة مشاركة القادرين على (الريادة)؛ فعندما يُضخُّ (فكر ريادة الأعمال) في خليط الجهود الأكاديمية، تحدث أشياء مميزة في الجامعات الأمريكية. وأشار المؤلفان إلى أنهما حرصا على التنويه بإنجازات ضخمة تحقَّقت نتيجة مشاركة (عقلية ريادة الأعمال) في مجتمع الجامعة، إلَّا أنها ما زالت حالات نادرة، حيث ما زالت هناك شكوك عند الأكاديميين حول (عقلية ريادة الأعمال)، ويصفونها بأنها انتهازية وتجارية.
وقد أوضح المؤلفان أن (ريادة الأعمال) تتَّفق تماماً مع الجامعة العصرية في كل أجزائها المتعدِّدة والمتنوِّعة، وأن هذه الحقبة هي (حقبة ريادة الأعمال)، وأن مقولة بيتر دراكر (Peter Drucker)، بأن «رواد الأعمال يبتكرون»، تضع تعريفاً واسعاً، وتختصر الدلالات العميقة لمفهوم (ريادة الأعمال)؛ فرواد الأعمال ليسوا بالضرورة (رجال أعمال)، كما أن كلمات مثل (الإدارة) أو (التسويق)، أو حتى (المال)، لا تظهر في هذا التعريف، فحيثما عمل (رائد الأعمال)، فمن المؤكَّد أنه سيكون (عامل تغيير)، وتقبع هذه الرؤية في قلب التعريف المعاصر لكلمة (ريادة الأعمال).
وخلص المؤلفان إلى أن (ريادة الأعمال) ليست موضوعاً أو تخصُّصاً، وإنما هي ممارسة أو طريقة تفكير قادرة على زيادة تأثير (الابتكار)، وأن الأساس في (عقلية ريادة الأعمال) لا يتبدَّل أيًّا كانت الاهتمامات أو التطلُّعات أو القيم؛ لذا فإنه يُصبح من الضروري لنجاح أيِّ جامعة أن تكون (ريادة الأعمال) عنصراً أساساً لحلِّ المشكلات، ومكمِّلاً – وليس بديلاً – للمنهج النقدي المستقرِّ في الفنون والعلوم، وعلى رائد الأعمال أن يوازن بين وضع رؤية إستراتيجية شاملة، وبين الحاجة إلى تنفيذ الأنشطة اليومية التي تُترجم الرؤية إلى واقع.
اهتم المؤلفان في الفصول الخمسة الأولى من الكتاب بمفهوم (الابتكار)، حيث رسم الرؤية الشاملة للمقوِّمات المختلفة لـ(جامعة ريادة الأعمال)، مستخدماً نماذج مختلفة من الجامعات، الأمريكية وغير الأمريكية، كما ناقش المؤلفان منهجية الريادة في العلم، إضافة إلى مجموعة متنوعة من مشاريع الريادة الاجتماعية، وآليات إقامة المشاريع، والمنهجيات متعددة التخصصات القائمة على حل المشكلات؛ لمواجهة أضخم المشكلات العالمية، خاصة تلك التي تشمل الفنون والعلوم والمهن. أما في الفصول الستة الأخيرة، فقد ُركز المؤلفان على التنفيذ الماهر والحاذق، وعلى وصف (الهيكل التنظيمي) وطريقة (قياس النجاح).
الفصل الأول: فرصة ريادة الأعمال
يعتقد المؤلفان أن الأحداث تضع الجامعات الأمريكية في وضع متباين، وذلك حسب نظرة القارئ للأحداث، فهي من أكثر المؤسَّسات في المجتمع الأمريكي ملاءة مالية، وتتجمَّع فيها أفضل العقول في العالم، ولديها ثقافة تُشجِّع البحث عن المعرفة وتحويلها إلى تطبيقات عملية، وتحقق كل هذه الموارد تحت مظلة تطوير المجتمع؛ ما يفرض على الجامعات أن تتصدر مواجهة التحدِّيات المعاصرة، وهي تحدِّيات ليس من السهل التعامل معها، في ظلِّ التوقعات الكبرى المرتبطة بدور الجامعات البحثية. وهناك خمسة توجهات تاريخية، تدعم الاستنتاج الذي توصل إليه المؤلفان أعلاه:
- إن طبيعة مشكلات القرن الحادي والعشرين هي مشكلات كبيرة ومعقَّدة؛ ما يتطلَّب مقاربات مختلفة ذات خصائص جديدة وموارد غير مسبوقة؛ لتتكامل مع التخصصات الأكاديمية التقليدية؛ فهذه المشكلات التي أطلق عليها جون كاو (John Kao) اسم المشكلات الشريرة ((wicked problems مثل (التغيُّر المناخي) و(التدهور البيئي) و(الأمراض المعدية)، و(الفقر المدقع)؛ كلها وغيرها من هذا النسق لا تحظى بحلول محدّدة، يُمكن الوصول إليها عن طريق تخصّص محدَّد، وهذا يتطلَّب تعاملاً جديداً مع مفهوم (الابتكار)، يكرس عدداً كبيراً من التخصُّصات؛ لوضع خريطة طريق لأسلوب عملٍ ذي طبيعة مستديمة. وعلى الرغم من صعوبة التعاطي مع (المشكلات الشريرة)، إلاّ أنه يُمكن النظر إليها كفرص تدفع بالجامعات إلى التحرُّر من النموذج الهرمي التقليدي، والقيام بتغيير أسلوب تفعيل عملية (الابتكار).
- إن أدوات (تقنية المعلومات) المتاحة الآن للأفراد والمجموعات الصغيرة، تُهدِّد سلطة المؤسسات البيروقراطية الضخمة، وتُمكِّن أولئك الذين يحظون بـ(عقلية ريادة الأعمال)، وهذه الحقيقة تخفَّف جزئيًّا من وطأة (المشكلات الشريرة)، وتفتح آفاقاً متنامية لإسقاط الديمقراطية على المعرفة، وتمكين كل من يملك جهازا ً خليويًّا أو حاسباً محمولاً من حصوله على المعرفة، حيث تختفي الحواجز الاقتصادية والمادية أمام تدفقها المجاني. إنه من المبكِّر، التنبؤ بحجم تأثير التدفقات الجديدة الضخمة لهذه المعلومات متعدِّدة التوجُّهات، ولكن من الواضح أن أدوات تعاونية جديدة وفعَّالة ستبرز، لتساعد أولئك الباحثين عن حلول للمشكلات العالمية الكبرى؛ ما يعني أن (فكر ريادة الأعمال) سيكون مطلوباً لفهمها واستيعابها.
- إن طلاب الألفية الثالثة في الجامعات، يتعاملون مع تعليمهم وعالمهم بعقلية جديدة ومختلفة، وهي عقلية تُفضِّل النتائج على الإجراءات، وتُحبِّذ التراكم المعرفي عبر أشكال معقَّدة من التواصل الاجتماعي، وهم – بشكلٍ عام – يعدون أنفسهم رواد أعمال. إن الأدوات المتاحة لجيل الألفية، تجعلهم راغبين – بتفاؤل وإصرار – في التصدي للمشكلات الصعبة، وسيكون هذا الجيل من الطلاب شريكاً حريصاً للجامعات البحثية في مواجهتها مشكلات العصر، وسيكونون قادة التغيير دافعين التركيبة الأكاديمية لتقوم بجهد أكبر، وطارحين خلفهم الحالة الهرمية التقليدية في الجامعات للنقد، وهم بذلك يُصبحون قوة أخرى تدفع بالجامعة نحو مقاربات (ريادة الأعمال) للتحدِّيات الكبرى.
- إن المصادر التقليدية لتمويل الأبحاث في الجامعات تتناقص، وأصبح لدى الممولين – وغالبيتهم من القطاع الخاص – توقُّعات أكبر مرتبطة بالأداء؛ ما يُبرز أهمية توجُّه (ريادة الأعمال).
- تتحدَّى مشكلات العصر الكبرى أفضل العقول؛ لأن الأمر تجاوز تخصُّصات معيَّنة، كانت في السابق تستطيع أن تُقدِّم الحلَّ الحاسم للمشكلة، وذلك قبل بروز (المشكلات الشريرة)، التي تُميِّز الحقبة الحالية. لقد أصبح من الواضح لدى الجميع أنه في حالة الوصول إلى حلٍّ لأيِّ مشكلة كبرى، فإن ذلك سيكون نتاجاً لجهود فرق عمل من تخصُّصات مختلفة، منها ما هو تقليدي، ومنها ما يقع خارج نطاق المعرفة التقليدية. ويرى المؤلفان أنه على الرغم من جاذبية هذه المقاربة متعدِّدة الأوجه والتخصُّصات، إلا أنها مقاربة فاشلة، إذا لم تكتسب (فكر ريادة الأعمال)؛ أي رؤية الصورة الكبرى وتكاملها، وتخيَّل تطابق أجزائها، ولكي تنجح هذه المقاربة على رائد الأعمال، أن يكون متمكِّناً من تخصص أو أكثر، وقادراً على أن يكون عضواً في فريق، ومتمتِّعاً بحسٍّ أخلاقي عالٍ؛ بسبب القضايا المجتمعية العميقة المرتبطة بهذه المشكلات.
ويخلص هذا الفصل إلى أن مشكلات العصر الكبرى، تتطلَّب بيئة معيَّنة للتعامل معها، وفي ضوء ما يتوافر للجامعات البحثية من إمكانات وموارد وعقول، فإنها تُصبح المكان الأنسب لهذه البيئة، إلا أن هناك عنصراً مفقوداً في هذه الخلطة، وهو (فكر ريادة الأعمال)، وعند إدخال هذا العنصر ودمجه في الحوار داخل الجامعات، فإن بإمكان هذه المؤسسات أن تبرز كمحرِّكات ابتكار، وهذا ما يتوقَّعه المجتمع منها.
الفصل الثاني: علم ريادة الأعمال
السؤال المحوري الذي تناوله المؤلفان في هذا الفصل، هو: كيف يُمكن أن نوائم بين العلوم الأكاديمية في الجامعات، وبين ما يُمكن أن نطلق عليه علم ريادة الأعمال؟. إن معظم العلماء سيقولون إن هناك خطًّا فاصلاً بين اكتشاف المعرفة، وهو المهمة الأساس في الجامعات، وبين تسويق المعرفة الذي يقع أساساً ضمن نشاط القطاع الخاص، ويرى هؤلاء أن مهمة التسويق في حدّ ذاتها صعبة دون إضافة خصائص النشاط الأكاديمي ذي الطبيعة المحصورة.
في الوقت ذاته أكَّد المؤلفان أهمية الاحتفاظ بقيم العمل الأكاديمي وخصائصه المهتمة بالتعليم والبحث والعلوم الأساسية؛ لما يُمثِّله من قدرة جاذبة لأفضل العقول، وأسس داعمة للحرية الفكرية، ومعايير عالية عند التقييم، حيث يخلصان إلى أن الخيار ليس بين قيمة العمل الأكاديمي، أو الاندفاع نحو حلِّ المشكلات الكبرى للعالم، فهذا خيار كاذب؛ فالعالم يتطلَّع إلى البيئة الأكاديمية، لتأمين المقاربات الابتكارية لمشكلات خطيرة؛ لأنه يضيف قيمة عالية للعلوم الأكاديمية.
وأضاف المؤلفان أنه يُمكن النظر إلى الأمر من زاوية أخرى، ليكون السؤال: هل يُمكن للعلم الأكاديمي أن يكون (علم ريادة أعمال)؟ ويعتقد المؤلفان أن ذلك ممكن؛ ف(علم ريادة الأعمال) يُمكن أن يُساعد في الإجابة عن سؤال البداية في كل الأبحاث الأكاديمية، وهو: ما المعرفة الجديدة التي ينبغي استقصاؤها؟ أما الإجابة عن هذا السؤال، فتُصبح في متناول اليد عند دراسة واقع الجامعات البحثية، الذي تتميَّز فيه أنشطة العلوم بمختبراتها الضخمة، ومنسوبيها متعدِّدي التخصُّصات والمهام، ومخصَّصاتها المالية الكبيرة؛ ما يجعل العلوم ركيزةً وأساساً للنموذج الاقتصادي لأيِّ جامعة بحثية.
دفع الاهتمام المتنامي بالبحث العلمي في النموذج الاقتصادي للجامعات، بتساؤلات عدة داخل البيئة الأكاديمية وخارجها، تتعلّق بالمردود على هذه الاستثمارات، ومدى التأثير الذي تصنعه على مشكلات العالم الكبرى.تجعل تلك الحقائق والتساؤلات الإجابة عن طبيعة المعرفة المطلوبة، متركزة حول (التأثير)؛ لتكون هي التي تُحقِّق التأثير الأعظم، ولـ(فكر ريادة الأعمال)، دور مهم في إيضاح الصورة الكبيرة، وربط العناصر المختلفة؛ فبينما نجد أن هذا الفكر ليس هو التسويق، إلاّ أنه يقوم بدور مفيد في تنوير العلم الأكاديمي بطبيعة السوق.وخلص هذا الفصل إلى أنه يُمكن حقن (فكر ريادة الأعمال) في (العلم الأكاديمي) بطريقتين: أن يتعلّم الأكاديميون طرق هذا الفكر، وأن يشترك رواد الأعمال في الأنشطة الأكاديمية. أما العقبة الرئيسة في تنفيذ هذين الحلين، فتكمن في معارضة بعض الأكاديميين لأهمية (فكر ريادة الأعمال)، واعتراضهم على وصف رواد الأعمال زملاءً لهم في العمل. ومن تجربة المؤلفين، فإنهما يعتقدان أنه حال التغلُّب على هذه العقبة، فإن النتائج تتجلَّى في الحال وبشكلٍ مؤثر؛ فصوت (ريادة الأعمال) بين مجموعة متميِّزة من العلماء، يقود في الغالب إلى علم ريادة أعمال ذي تأثير أعظم. كما أورد هذا الفصل نموذجين ناجحين لتلك العلاقة المطلوبة، بين (الفكر الأكاديمي) و(فـكر ريـادة الأعـمـال): أحـدهما مختبر لانجر (The Langer Lab) في معهد ماساتشوستس للتقنية ((MIT، والآخر هو مجموعة ديسمون البحثية ((The DeSimone Research Group في جامعة شمال كارولاينا.
الفصل الثالث: إنشاء المشاريع
رأى المؤلفان في هذا الفصل أنه إضافة إلى إجراءات التنفيذ، فإن الحاجة ماسَّة إلى التركيز على تأسيس ثقافة؛ لإطلاق الإمكانات الكامنة لدى الجامعات، بوصفها محرِّكات ابتكار، والاهتمام بها لترعى التطوُّر الاقتصادي و”إنشاء المشاريع”؛ فدور النقاش الذي يسود في المجتمع الأكاديمي، أكبر من الجوانب التنفيذية، مثل مكتب نقل التقنية أو الإجراءات والقواعد الحاكمة. في هذه الحالة، فإن الحوار في حدِّ ذاته مهم، إلاّ أن لنوع المشاركين في الحوار أهمية أيضاً تتحدَّد في إذا ما كانوا من أولئك الذين يصنعون الأشياء، إضافةً إلى أولئك الذين يكتشفونها، وفيما إذا كانت الإسهامات تأتي من أشخاص يقضون جزءاً من وقتهم خارج نطاق البيئة الأكاديمية؛ ليُضيفوا رؤية شاملة إلى الحوار، وفي إذا ما كان المشاركون في الحوار يُمثِّلون طرقاً مختلفة للنظر إلى العالم، وتجارب حياتية متنوِّعة، وفيما إذا كان حلُّ المشكلات الكبرى يقع في قلب رسالة المؤسسة، فيكون النجاح مدعوماً بشكلٍ معتاد ومحتفى به، والأهم من ذلك، هو قيام القيادات العليا في الجامعة بدعم “إنشاء المشاريع” وتشجيعه، وفي إطار كل ذلك، رأى المؤلفان أن ما أسمياه التخصُّصات الناقلة (Translational Disciplines)، هي مفتاح لتشجيع هذه الثقافة، وتأسيس الحوار الذي يقود إلى (إنشاء المشاريع).
ما (التخصُّصات الناقلة)؟ من طبيعة بعض التخصُّصات في البيئة الأكاديمية، أنها تتخطى البيئة الأكاديمية؛ لتتواصل مع العالم خارج الجامعة؛ فالأكاديميون في هذه (التخصُّصات الناقلة)، يقضون – في الغالب – بعض الوقت مشغولين بمشاريع خارج النطاق الأكاديمي، وتهتم المناهج فيها بتعليم مهارات مهنية، وتدريب تطبيقي، حيث تطبق هذه التخصُّصات المعرفة الأكاديمية على مشكلات العالم الحقيقية، وأبرز مثال لهذه (التخصصات الناقلة)، هو (الهندسة)، بحسبما أخبر به جيم بلامر (Jim Plummer)، عميد كلية الهندسة في جامعة ستانفورد، حيث إن (إنشاء المشاريع) جزء أساس من ثقافة الهندسة؛ فالمهندسون يحولون أفكار العلماء والباحثين إلى حلول تطبيقية. ويمكن أن تؤدي بعض التخصُّصات والأقسام في الجامعة البحثية دوراً مهمًّا في عملية نشر هذه (الثقافة الناقلة)، على مستوى الأقسام والجامعة بأكملها، ويعتقد المؤلفان أن تخصُّص (إدارة الأعمال) يُمثِّل تخصُّصاً ناقلاً قادراً على القيام بدور مهم بالشراكة مع (الهندسة) في (إنشاء المشاريع)، كما أن هناك تخصُّصات أخرى أقل وضوحاً بإمكانها – عند تشجيعها – أن تقوم بدور قيادي أو مساند في (إنشاء المشاريع) لتُصبح تخصُّصات ناقلة، ومن أمثلتها الطب والصيدلة والقانون والإعلام والتمريض، وبتضافر جهود تلك التخصُّصات يُمكن تشكيل ثقافة تحتضن هذه الاهتمامات على امتداد الجامعة.
إن جزءاً من رسالة (التخصصات الناقلة)، أنها تؤهِّل الطلاب لأدوار محدَّدة في سوق العمل، ومن ثم فإنها تتبنَّى حواراً بين الأكاديميين والتطبيقيين، ويقضي الطلاب فترة تدريب كجزء من المنهج الدراسي، ويؤسِّس هذا لانسياب طبيعي للأفكار والرؤى المشجعة على (إنشاء المشاريع)، التي تقوم بدورها – في الغالب – بتزويد معلومات تفيد البحث الأكاديمي، وفي بعض الحالات تكون أساساً للبحوث.وعندما يتطوَّر أعضاء هيئة التدريس بشكلٍ مهني عبر دراسة وفهم الأنشطة، التي تؤدّي إلى (إنشاء المشاريع)، فإن التأثير يكون عميقاً على الثقافة والحوارات التي يُشاركون فيها؛ لتُصبح عملية (إنشاء المشاريع) جزءاً أساساً للتطوّر المهني لكثير من الأكاديميين في (التخصُّصات الناقلة).
وقد قدم هذا الفصل مجموعة اقتراحات لتفعيل تلك القدرات الجوهرية، مثل مشاركة خريجي (التخصُّصات الناقلة) في (إنشاء المشاريع) على امتداد الجامعة، دون النظر إلى حدود الأقسام، كما أن لمشاركة رواد الأعمال مع الأكاديميين تأثيراً بارزاً، حيث يمنح تيسير هذه العملية بشكلٍ منظّم، دفعة كبيرة لإنشاء المشاريع على امتداد المدينة الجامعية.
وقد توصل المؤلفان في هذا الفصل، إلى أن التحدّي هو إيجاد وسائل تُشجّع على المشاركة الفعّالة للتخصُّصات الناقلة، وتغيير جدول الأعمال المؤسّسي، وقد أورد المؤلفان في نهاية هذا الفصل بعض الأمثلة، حيث نجحت بعض المؤسسات في التغلُّب على هذا التحدّي؛ وهي: جامعة ستانفورد، ومعهد ماساتشوستس للتقنية، وجامعة شمال كارولاينا.
الفصل الرابع: ريادة الأعمال الاجتماعية
يبرز في هذا الفصل مفهوم (ريادة الأعمال الاجتماعية)، كأحد أهم الأفكار التي ظهرت في المجتمع الأمريكي في السنوات الأخيرة، وله تأثير عميق على كل جامعة رئيسة، كما برزت مؤسسات وصناديق تمويل خيرية كبيرة، متبنّية (ريادة الأعمال الاجتماعية) رسالة لها، متجاوزةً بذلك المفهوم التقليدي للعمل الخيري، ومعتمدةً الاستدامة والمحاسبة بوصفهما ركيزتين لإحداث تغيير اجتماعي إيجابي في المجتمع، عبر قيام رواد الأعمال باستخدام مهاراتهم.
ما (ريادة الأعمال الاجتماعية)؟ قد يكون من الصعب تعريف هذا المصطلح، إلاّ أن أمثلة معيَّنة تُسهم في إبراز دلالات هذا المفهوم؛ فقيام محمد يونس في بنجلاديش بتأسيس (بنك جرامين)، الذي يمنح قروضاً صغيرة ومباشرة للفقراء؛ لدعم مشاريعهم الصغيرة، مثال يُحتذى به لتحديد ملامح (رائد الأعمال الاجتماعي)، الذي يُترجم الرؤى إلى تطبيق عملي لصالح ملايين الناس، وهكذا فإن (ريادة الأعمال الاجتماعية) تمزج الهدف الاجتماعي بأدوات (ريادة الأعمال) ومهاراتها؛ لتحقيق نتائج ملموسة على الصعيد الاجتماعي.ستقوم (ريادة الأعمال الاجتماعية) بدور مركزي في الاستجابة لتحدِّيات العالم المعاصر، وستعمل على زيادة تأثير الجامعات البحثية في التصدِّي لهذه المشكلات، وهناك أسباب عملية تجعل من تبني الجامعات لهذا المفهوم أمراً منطقياً؛ فالطلاب يتمتَّعون بالحماس والمثالية، وسيجد الأكاديميون فيها ممارسة متوافقة مع قيمهم، وهي مفهوم يُرسي الأساس لرؤية فكرية تغرس (ريادة الأعمال) في ثقافة البيئة الجامعية، كما أن هذا المفهوم الاجتماعي لريادة الأعمال سيجد دعماً من المانحين والداعمين.
تتضمَّن الخطوة الأولى لتأمين تغيير ثقافي في هذا الإطار، إيجاد منهج لـ(ريادة الأعمال الاجتماعية)، ولقد طبَّقت جامعة ستانفورد هذه الخطوة قبل أكثر من عقد من الزمن، عندما أسَّست ورشة عمل لهذا المفهوم، ولحقت بها جامعة هارفارد، وفي الوقت الحاضر تتوافر برامج مماثلة في عدد من الجامعات، ويورد الكتاب تفاصيل ثلاثة أمثلة في جامعات تافتز وجون هوبكنز وشمال كارولاينا.
الفصل الخامس: المراكز متعدِّدة التخصصات
من مزايا الجامعات أنه لا توجد لديها مشكلة في تعدُّد الاقتراحات حول تأسيس مراكز متعدّدة التخصُّصات، أو أيّ تركيبة أخرى تتوافق مع التخصُّصات التقليدية، ولكن المشكلة هي أن هذه المقترحات – في أحسن أحوالها – غير كاملة، وفي أسوأ الحالات تقع تحت المظلة الخطأ، وفي غالبية الأحوال تفتقر إلى الاستمرارية. أما التحدِّي أمام رائد الأعمال، فهو أن يستثمر الإيجابيات في النظام ألأكاديمي، ويوجِّهها نحو نتائج طويلة الأمد وقابلة للقياس.هناك اتجاهان لدفع المراكز متعدّدة التخصُّصات: أحدهما هو تحسين البحث والتدريس والمعرفة عبر تأسيس (التخصُّصات البينية) وتشجيعها، والثاني هو حلُّ المشكلات المهمَّة، ويحتاج هذا إلى تمويل خارجي، ويورد هذا الفصل عدداً من الأمثلة المطبّقة في جامعات غربية.وأوضح المؤلفان أن (التخصُّصات البينية) وجدت لتبقى، وهي موجة المستقبل، وأن الجامعة التي تتبنَّى هذه الرؤية تضع نفسها في موقع يجعلها قادرةً على إحداث التغيير في المستقبل القريب، كما أن الممولين يدفعون في هذا الاتجاه لأنهم يهتمُّون بدعم الأبحاث المهتمة بتوفير الحلول للمشكلات، وليس بدعم تخصُّص أو قسم بعينه.
وعلى الرّغم من تلك التوجّهات، أكد المؤلفان أن التخصُّصات الأكاديمية ستبقى بوصفها آليات تنظيمية أساسية، وستظلّ حجر الزاوية الذي تستند إليه البيئة الأكاديمية، وتعمل على تسهيل تشكيل المجموعات الأكاديمية المبدعة خارج حدودها؛ فهي التي تضمن الصرامة الفكرية، وتؤمّن البيئة الإدارية لأعضاء هيئة التدريس، وتمنح التدريب في التخصُّصات؛ لأن مراكز (التخصُّصات البينية) لن تتمكَّن من تأدية مهامها دون وجود أكاديميين متمكِّنين من تخصصاتهم.في نهاية هذا الفصل اهتم المؤلفان بوضع معايير لعلاقة متوازنة بين الأقسام الأكاديمية ومراكز (التخصُّصات البينية)، ورسما أطر القواعد اللازمة لتأسيس هذه المراكز؛ لضمان نجاحها واستمرارها؛ ما يدفع في اتجاه تكوين (رائد الأعمال الأكاديمي)، ويؤكِّد ضرورة التعاون بين كل التخصُّصات لحلّ المشكلات الكبرى لكي تتمكَّن (جامعات ريادة الأعمال) من أن تكون محرِّكات ابتكار حقيقية.
الفصل السادس: القيادة
يبدأ الابتكار حسبما يعتقد المؤلفان بـ(فكر ريادة الأعمال)، وهذا – في معظم الحالات – يبدأ بفرد وليس بلجنة؛ لذا تحتاج الجامعات التي تصبو إلى أن تكون محرّكات ابتكار، إلى نوع فريد من القيادة التي تُصبح قدوة لغيرها داخل الجامعة. وأورد هذا الفصل بعضاً من المقوِّمات المشتركة بين القياديين الذين يحتضنون نمط (قيادة ريادة الأعمال)، وهي:بلورة رسالة المؤسسة وقيمها؛ لتمكين العاملين المبتكرين، وتوفير التشجيع والفضاء المناسبين لإبداعهم، مع ربط ذلك بمفاهيم المحاسبة والتأثير.
1- التركيز على تأسيس ثقافة، وليس فقط وضع أنظمة وقواعد.
2- صياغة إستراتيجية تُحدِّد الفعاليات التي تتضافر لتُميُّز الجامعة عن غيرها من الجامعات.
3- الاهتمام بالتنفيذ مع الاعتماد على فرق العمل المتمكّنة، والحرص على اختيار الكفاءات ذات القدرات المتنوِّعة والقادرة على التناغم رغم الاختلاف في الرأي.
4- التمتُّع بصفات شخصية تُعد أساساً في قيادة الجامعات المتطلِّعة إلى أن تكون محرِّكات ابتكار، ومن هذه الصفات: روح المنافسة الدافعة إلى التواصل الدائم مع المانحين والاستئناس بآرائهم، والتواصل والتعاطف والتعامل الميداني مع جميع الفئات، من طلابٍ ومسؤولين وموظفين وأعضاء مجالس إدارات وغيرهم، والاستماع الجيِّد للآخرين، وإدارة الأزمات من منطلق تحويل التحدِّيات إلى فرص، والقدرة على اختيار الأشخاص المناسبين للمهام وتحفيزهم، وإحاطة أنفسهم بفريق عمل يتمتّع أعضاؤه بمهارات متكاملة، ويستوعبون الاختلاف في الرأي، والقدرة على الحسم واتخاذ القرار، والتعامل المباشر مع المسؤوليات والإحاطة بالمعلومات والأرقام مع تفويض الآخرين ودعم قراراتهم، والشفافية والقدرة على نقل المعلومات للآخرين، والتواصل مع وسائل الإعلام؛ لطرح البرامج وتعميق آثارها.كما قدم هذا الفصل مجموعة من الإجراءات لكيفية اختيار القائد، تبدأ بوضع الصفات الشخصية المثالية، والوصف الوظيفي للمهمَّة، وجمع أسماء المرشحين المناسبين عبر أساليب عدّة؛ لذا فإن حُسْن اختيار لجنة البحث عن المرشحين يُعد أمراً ضروريًّا، فمن المهم أن تكون اللجنة متنوّعة سكانياً، وقد يكون من المناسب اختيار بعض أعضائها من المعنيين بريادة الأعمال من خارج الجامعة، كما أن للمقابلات الشخصية مع المرشحين أهميتها وشروطها.
مرصد التعليم العالي، المملكة العربية السعودية