الجدل لا يزال محتدا حول المهام التي يمكن للذكاء الاصطناعي القيام بها، والمهام التي سيصعب أو يستحيل عليه تأديتها. إلا أنّ الجميع يتفق حول قدرة الذكاء الاصطناعي على المساهمة في أتمتة المهام المجهدة البسيطة، وأن هذه القدرات ستتطور مستقبلا لتشمل مهام أخرى عديدة. ولكن، هناك شكوك حول قدرة الذكاء الاصطناعي على استبدال ما يعرف بـ”الموظف الجيّد”. دعونا أولا نحدد ما هي صفات وخصائص الموظف الجيّد. يمكن ذكر قائمة من الصفات، ولكن يبقى أهمّها على الإطلاق المشاركة، أو ما يشار إليه بالولاء ومدى التزام الموظف عاطفيا تجاه المؤسسة التي يعمل بها، ودعمه الأهداف التي تسعى لتحقيقها. بلغة أبسط مدى اهتمام الموظف وارتباطه بعمله وبالمؤسسة التي يعمل بها. والسؤال، بعد أن حددنا من هو الموظف الجيد، هل يمكن لآلة يسيرها الذكاء الاصطناعي أن تحاكي هذا الالتزام والولاء؟ وبالتالي هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحل محل الموظف الجيد؟
فرص غير مسبوقة
ما من شك أن الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الروبوتات قادرة بشكل متزايد على أن تحل محل البشر في البعض من الوظائف، أو هي قادرة على أن تحل مكانهم بالكامل. ويبقى الأمر الأكثر تعقيدا بالنسبة إلى الخبراء المهتمين بدراسة مستقبل سوق العمل هو كيف سيبدو هذا السوق مع تحسن قدرات الذكاء الاصطناعي والقدرات الروبوتية في آن واحد، مما يفتح فرص غير مسبوقة للآلة لتحل محل البشر؟ هذا التساؤل طرحته كارلا إريكسون وهي عالمة إثنوغرافيا وعالمة اجتماع في كلية غرينيل في ولاية آيوا الأميركية. تقول كارلا “يمكننا أن ننظر إلى الوراء ونسترجع ما حدث في فترات سابقة تم فيها تطبيق الأتمتة السريعة؛ المحركات البخارية، والثورة الصناعية، وتوظيف أجهزة الكمبيوتر في معظم المجالات في الثمانينات.. وغيرها”.
بمرور الوقت تظهر تجارب الأتمتة السابقة نموا في عدد فرص العمل الجديدة، تسبقها غالبا فترة من البطالة المرتفعة وتحولات في طبيعة العمل. ومع ذلك، فإن القليل الذي يمكن تمييزه من تلك التحولات السابقة محدود الأهمية، نظرا لوجود العديد من الظروف الاستثنائية التي تؤثر على تغييرات العمالة في عشرينات القرن الحالي. وتختلف هذه الموجة من الأتمتة عن الفترات السابقة بمجموعة من المواصفات: فبينما نجد أن الأتمتة طالت مجالا واحدا في الماضي، تطال اليوم عدة مجالات في وقت واحد. ويمكن القول إن العديد من الصناعات توظف الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الروبوتية في آن معا.
وتجري الآن محاولات استنساخ المهارات البشرية التي اعتبرت في الماضي خارج متناول التكنولوجيا، سواء من الناحية الفنية والتفاعل الاجتماعي، أو خفة الحركة الجسدية. بل أصبح بالإمكان اليوم إصدار روائح رقمية. وكلها خطوات ستسهل مستقبلا استبدال القوى العاملة البشرية. من الصعب أن ننظر إلى الوراء للتطلع إلى الأمام. وعلى عكس موجات الأتمتة السابقة، فقد رافقت موجة الأتمتة الحالية أزمات اقتصادية حادة ووباء عالميا، مازال العالم يكافح للتعافي من موجات البطالة التي نجمت عنها، اضطرت معه الولايات المتحدة والدول الغنية الأخرى إلى الإنفاق بشكل كبير جدا على إعانات البطالة، الأمر الذي أربك سوق العمل، وجعل تتبع الآثار طويلة المدى للأتمتة على التوظيف أقل وضوحا. ووفق أناند ميديبالي، كبير مديري حلول الذكاء الاصطناعي في سانتا كلارا، ومقرها كاليفورنيا، “سيكون للذكاء الاصطناعي تأثير على الوظائف التي يتعين القيام بها، إلا أنه لن يحل محل الموظفين حقا”.
مهارات فطرية
بدلا من ذلك، تدرك الشركات أن المساهمات الحقيقية للذكاء الاصطناعي هي في زيادة مهارات موظفيها، واستبدال المهام اليدوية المتكررة والمعرضة للخطأ بأتمتة ذكية، بحيث يمكن للموظفين قضاء المزيد من الوقت في القيام بمهام إبداعية ذات أولوية أعلى. نتيجة لذلك، ستعمل المؤسسات التي تتحلى إدارتها بالتفكير المستقبلي على تسريع برامج إعادة صقل مهارات موظفيها، وإعادة توزيعهم بشكل يلائم تعزيز المرونة التنظيمية والإنتاجية وتطوير الخبرات من خلال إدخال الذكاء الاصطناعي. يختلف الذكاء الاصطناعي عن تقنيات الأتمتة السابقة بأنه ليس نظاما قائما على قواعد ثابتة؛ بل هو نظام قائم على بيانات متغيرة.
ماذا يعني ذلك عمليا؟ يبدأ تطبيق الذكاء الاصطناعي باستخدام خوارزميات تعتمد مجموعة من البيانات يزود بها مسبقا، إلا أن هذه الخوارزميات سرعان ما تتغير مع ظهور بيانات جديدة، وتكمن قوة الخوارزميات في قدرتها على تغيير نتائجها ديناميكيا في كل مرة تتوفر بيانات جديدة. وهنا السؤال اللغز حسب تعبير ميديبالي “هل نثق في قدرة الذكاء الاصطناعي على تغيير القواعد من تلقاء نفسه؟ وهل ستكون القواعد الجديدة جديرة بالثقة وقابلة للتفسير وقوية في جميع الأوقات؟”. يؤكد ميديبالي أن المهارات الفطرية والمعرفة التي يتمتع بها الموظفون ستظل ضرورية لضمان التشغيل السلس في بيئات العمل. وسضيف بالقول “سيقوم الذكاء الاصطناعي بدور مستشار فائق الذكاء يعمل دون توقف. لكن العنصر البشري سيظل سيد القرار”.
مع قدوم الثورة الصناعية الرابعة كانت لدى المجتمعات مخاوف مماثلة، وتساؤلات حول قدرة وكفاءة عمال المصانع على تشغيل خطوط التجميع التي يتم التحكم بها بأجهزة الكمبيوتر. وبمجرد أن استثمرت الشركات في تدريب عمال المصانع، تأقلم هؤلاء سريعا مع الأنظمة الجديدة وأظهروا كفاءة عالية في استخدام الكمبيوتر. ومع قدوم المزيد من الأتمتة، لم يكن هناك أي مخاوف حول انعكاسات ذلك على أي من الوظائف الصناعية. لذلك، يقول ميديبالي، لا شيء يستدعي الاعتقاد بأن الشركات ستعجز عن القيام بالشيء نفسه مع هيمنة الذكاء الاصطناعي، وذلك بإعادة تأهيل وتدريب القوى العاملة لديها. باختصار، كل ما يحتاجه الموظفون والمؤسسات هو “أن يصبحوا أذكياء في مجال الذكاء الاصطناعي”.
إنهم بحاجة إلى تعلم كيفية تفسير توصيات الذكاء الاصطناعي، وتوجيه تطورها من خلال ردود الفعل المستمرة. و”بمقدار أهمية إبداء الثقة بالذكاء الاصطناعي وبتوقعاته، مهم أيضا امتلاك القدرة والجاهزية على التدخل في حالات طارئة وعند حدوث خطأ ما. في النهاية الموظف البشري يعرف شيئا لا يمكن للذكاء الاصطناعي معرفته.”
مخاوف حقيقية
الذكاء الاصطناعي سيكون بمثابة البوصلة في صنع القرار. هذا ما يعتقده واين باترفيلد، مدير الأتمتة في شركة “آي إس جي” للأبحاث التكنولوجية والاستشارية ومقرها كونيكت، فالقوى العاملة المستقبلية ستوجه بشكل كبير بواسطة الذكاء الاصطناعي. وبوجود الذكاء الاصطناعي الذي يقدّم المساعدة المطلوبة لاتخاذ القرارات اعتمادا على البيانات المزود بها سيتم إنجاز الكثير من المعاملات. مع التعاطف، والحدس، والإبداع، ومهارات حل المشكلات التي لم يتقنها الذكاء الاصطناعي بعد، ستكون الشركات التي يظهر العاملون فيها قدرات أفضل على التكيّف مع تقنيات الذكاء الاصطناعي، هي الشركات الفائزة مستقبلا.
قد يكون الذكاء الاصطناعي، بجميع أشكاله، جيدا ويتفوق على الموظفين البشر في أداء مهام فردية. ولكن، عادة ما يكمل الموظفون العشرات، إن لم يكن المئات، من المهام المختلفة شهريا، لذا فإن الذكاء الاصطناعي سيحل، في أفضل الأحوال، محل بعض من المهام التي ينجزونها وليس كلّها. الخوف الذي يشعر به الناس هو خوف من الحاجة إلى التكيف وتعلم مهارات جديدة وهي مهارات لن تتمكن الآلة من فعلها أبدا لنأخذ مثال مراكز خدمة المستهلك، على الرغم من انتشار استخدام الذكاء الاصطناعي من خلال تقنيات توفرها روبوتات المحادثة، إلا أننا مازلنا نرى مراكز اتصال يديرها المئات إن لم يكن الآلاف من الموظفين. حاليا يتم استخدام الذكاء الاصطناعي للرد على استفسارات العملاء البسيطة، وهذا يترتب عليه انخفاض طفيف في عدد الموظفين، وفي الوقت نفسه يؤدي إلى زيادة تعقيد الاستعلامات المتبقية، والتي تكافح حتى أفضل تطبيقات الذكاء الاصطناعي للمحادثة للتعامل معها.
مع تعلم العمل والتعاون مع الذكاء الاصطناعي، تضيف ميسي لورانس جونستون المستشار الرئيسي في آي.أس.جي، هناك عنصر آخر جدير بالملاحظة. لا يمكن للذكاء الاصطناعي التطلع إلى الأمام. تستند تنبؤات التطبيقات الذكية على إدراك التجارب والأحداث السابقة والأسبق فقط، لذلك كل ما سنحصل عليه، في حال عدم الاعتماد على أشخاص يعملون على تطوير أجيال لاحقة من الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، هو تكرار لما لدينا اليوم.
ما يحتاجه البشر، هو امتلاك مهارات قيادية مستندة إلى قدرات الدماغ مثل الحدس والذكاء في التواصل مع الآخرين. يجب أن تنظر المؤسسات إلى ما هو أبعد من القوى العاملة المتجانسة تقليديا، وأن تكون منفتحة لاجتذاب مواهب غير التقليدية. المخاوف حقيقية، إلا أن الخوف الذي يشعر به الناس على الأرجح هو خوف من الحاجة إلى التكيف وتعلم مهارات جديدة، وهي مهارات لن تتمكن الآلة من فعلها أبدا.
صحيفة العرب