في ماهية الحداثة والتحديث

الرئيسية » الأعمدة » تأملات فكرية » في ماهية الحداثة والتحديث

تميز الأدبيات الفكرية العربية المعاصرة بوضوح متزايد بين الحداثة والتحديث من منطلق أن ما عرفته المجتمعات العربية منذ صدمة الحداثة واحتكاك العرب بالغرب سواء بفعل الحملة الفرنسية أو الظاهرة الاستعمارية لا يعدو أن يكون عمليات تحديث شكلية لم تمس جوهر وعمق الحداثة..

فبينما يحيل مفهوم الحداثة إلى التمييز بين حقبتين مختلفتين من مراحل الحضارة الإنسانية، أو قل بين نمطين متباينين من التنظيم والتفكير الإنساني؛ تباينا يصل إلى درجة القطيعة التاريخية في النظم المجتمعية، فإن مفهوم التحديث يشير إلى مجموعة العمليات التاريخية التي تنهض بها جماعات وفئات وسلطات متعددة، في سياقات تاريخية مختلفة، ولأهداف ومقاصد مختلفة، وتحث ضغط مصالح متناقضة أحيانا.

فبينما تحيل الحداثة إلى مرحلة تاريخية يجري تمييزها عن سابقاتها، فإن التحديث يحيل إلى سياسات وممارسات طبقت من قبل فئات اجتماعية، وإلى استراتيجيات خاصة للوصول إلى الحداثة كما تمثلتها هذه الفئات. وهي استراتيجيات تترجم المصالح المتباينة للجماعات التي بلورتها وطبقتها.

وبشكل عام، فكل تحديث يعبر عن محاولة لاستيعاب المكتسبات التقنية والعلمية والإدارية الجديدة. كما أن استراتيجيات التحديث لا تفهم ولا ينبغي أن تفهم إلا من حيث هي استخدام الحداثة ومنجزاتها من قبل فئات اجتماعية، واستثمارها من أجل تحقيق مصالحها الخاصة.. ولذلك إذا كانت الحداثة مرتبطة بالتاريخ فالتحديث مرتبط بالسياسات المجتمعية.

ومع ذلك، فالتحديث يمثل أصل كل حداثة، وهو ليس مفهوما سلبيا بالضرورة. لكن مع ذلك فعلى أهمية عملية التحديث إلا أنها لا تؤدي بالضرورة إلى خلق مجتمع حديث يخضع في أنماط إنتاجه وتنظيمه وتفكيره لقواعد ومنطق النظام الحديث أو الحداثة.

معلوم أن الحداثة قد تجسدت في التجربة التاريخية الغربية كتحول جذري على كافة المستويات: في المعرفة، ومفهوم الإنسان وتصور الطبيعة، ومعنى التاريخ، فهي بهذا المعنى بنية فكرية كلية ومفهوم حضاري شامل يطال مختلف مستويات الوجود الإنساني، حيث يشمل الحداثة التقنية والحداثة الاقتصادية والحداثة السياسية إلى جانب الحداثة الإدارية والاجتماعية والثقافية والفلسفية والفنية.. وتبعاً لذلك لا يمكن فهمها كظاهرة تاريخية شاملة إلا بدراستها دارسة استقصائية دون إهمال لأي جانب من جوانبها.

فمفهوم الحداثة، إذن، أقرب ما يكون إلى مفهوم مجرد، أو مثال فكري يلم شتات كل هذه المستويات، ويحدد القاسم المشترك الأكبر بينها جميعاً. وبمجرد انتهاج طريق هذا النموذج الفكري المثالي، فإن الباحث يشعر مباشرة بوجود قدر من التعارض بين الحداثة والتحديث. فالمفهوم الأول يتخذ شكل بنية فكرية جامعة للخصائص المشتركة بين المستويات السالفة الذكر من خلال منظور أقرب ما يكون إلى المنظور البنيوي، بينما يكتسي مفهوم التحديث مدلولا جدلياً وتاريخياً منذ البداية من حيث أنه لا يشير إلى الخصائص المشتركة بقدر ما يشير إلى الدينامية التي تقتحم هذه المستويات والى طابعها التحولي.

 ولذلك نجد أن كل فرع من فروع العلوم الاجتماعية يركز على عنصر من عناصر عملية التحديث: فيرى الاقتصاديون التحديث في المقام الأول من منظور تطبيق الإنسان للتقنيات بغرض السيطرة على موارد الطبيعة لتحقيق زيادة ملحوظة في نمو الناتج الفردي للسكان. ويركز علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا الاجتماعية اهتمامهم في عملية المفاضلة التي تميز المجتمعات الحديثة.. ويستكشفون الطريقة التي تنشأ بها بنى جديدة لاتخاذ وظائف جديدة.. ويولون اهتمامهم للمفاضلات التي تحدث داخل البني الاجتماعية مع ظهور وظائف جديدة.. كما يدرسون بعض الخصائص التفكيكية لعملية التحديث كتصاعد التوترات والأمراض العقلية والطلاق والصراع العرقي والديني والطبقي..

وعلماء السياسة يركزون، بصفة خاصة، على مشكلات الدولة وبنية الحكومات مع حدوث التحديث. ومن يهتمون منهم بالتطور يركزون لا على هوية من يمارسون السلطة وكيفية ذلك فحسب.. بل على الطريقة التي تضاعف بها الحكومات من قدرتها على إحداث التغيير.. وأسلوب تعاملها مع الصراع الاجتماعي.”

إذا جاز لنا أن نحدد مفهوم الحداثة من خلال خصائصها الكبرى فسوف نجد أنها تقوم على الفردانية مقابل حلولية الفرد في الجماعة  Holisme؛ وعلى أولوية العلاقات مع الأشياء (مقابل أولوية العلاقات مع البشر)؛ وعلى التمييز المطلق بين الذات والموضوع؛ وعلى فصل القيم عن الوقائع والأفكار؛ وعلى تقسيم المعرفة إلى مستويات وفروع مستقلة متناظرة ومتجانسة.

ومن خصائص الحداثة الإضافية بروز الذاتية والرغبة في السيطرة عبر المعرفة، من منطلق أن المعرفة التي تنشدها الحداثة، إنما تستهدف السيطرة على الطبيعة والتحكم في التاريخ وضبط المجتمع؛ إذ بينما “كان العقل عند أفلاطون يفيد الحكمة والفضيلة، وعند الفارابي يفيد الخير والسعادة، فإن العقل الحديث صار يعني السيطرة على الأشياء ويقترن بالفاعلية والذرائعية: أي عقلا أداتيا في خدمة المصالح والمنافع.” 

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *