في الحاجة إلى فهم «زمننا»

الرئيسية » الأعمدة » حروف » في الحاجة إلى فهم «زمننا»

الخلق في حركة دائمة لا تعرف توقفا، كالماء المنساب في الأودية يجري إلى مستقر له، كل قطرة  أو غرفة  منه وإن تماثلت في الشكل، فإنها ليست هي نفسها بل شأن آخر، كذلك الإنسان مذ خلق على وجه الأرض، وهو في تبدل وتغير لا يعرف جمودا، دائم الكدح من أجل فهم وجوده  ومعرفة مصيره ، لا يفتر عن طرح السؤال تلو السؤال، وأجوبته تتنزل في ما نطلع عليه من كشوفات واختراعات وابتكارات سواء تعلق ذلك بالمعاني والقيم، أو بالأدوات والآليات ، فالإنسان فطرة وجبلة لا يحده سقف في التصورات والتخيلات والأحلام ، كما لا يحول شيء دون طلبه التحسين والأحسن، ذلك المطلب الذي رآه البعض في التقدم التقني المادي الصرف، ورآه البعض الآخر في مراعاة آثار ذلك على كينونته وهويته كإنسان، وانبرى فريق ممن رزق الحس المآلي والاستشرافي إلى موازنة الأمور والنظر إلى العواقب في طلب الجمع بين الحس والمعنى في كل اختراع لتفادي الأضرار إن حالا أو استقبالا.

إن الإنسان اجتماعي بطبعه ، وخلق لكي يتواصل مع مفردات الكون عامة، وبني جنسه خاصة، فما تزال همته متعلقة بالاتصال والتواصل  حتى أبدع فيها الوسائل المختلفة التي  تبدت في زمانها على أنها منتهى ما يمكن أن يبلغه العقل الإنساني ، وما هي في الحقيقة إلا إمكانا من بين إمكانات لا نهائية تعلق بها العقل البشري ، فنالها بجده وكده.

يتحدث الجميع اليوم عن زمننا ، وكيف أضحت سمته المميزة هي الاتصال الذي لا تحده حدود جغرافية ولا سلط رقابية، فتعددت التسميات والعناوين لهذا العصر والمجتمع في آن، وواكبته التأملات الفلسفية والدراسات الاجتماعية والإعلامية  والتحاليل النفسية ، فأبدعت من التسميات والأوصاف ما أرادت به تعريفا جامعا مانعا بلغة المناطقة لهذا الزمن، فأجمعت كلها على أن الإنسان المعاصر يعرف طفرة جديدة في تمثله للعالم ورؤيته له وطرائق الانخراط  والفعل فيه.

لقد دخل الإنسان زمنا جديدا اصطلح عليه بالزمن الرقمي وأصبح معه الإنسان كائنا رقميا، يعيش عوالم واقعية وافتراضية جعلت ارتباطه بالآلة والشاشة يعيش أشكالا جديدة من الاندماج المجتمعي والتنمذج القيمي هيمنت على جميع مناشط الإنسان الفردية والجماعية، المعرفية والعملية .

كانت بدايات هذا الزمن الرقمي يعبر عنها  بلوائح عصر يتسم بالسرعة في المأكل والمركب، تلك السرعة التي اكتسحت كل شيء، بدءا بنقل الأشخاص والبضائع وانتهاء بانتقال الأفكار والمعلومات، فوتيرة الحياة وطريقة عيشها في تبدل دائم سمته السرعة والتغير وعدم الركون إلى أي شيء، مما سيشكل تحديا سلوكيا وقيميا وتصوريا ينبغي إعداد العدة المنهجية لتفسير ما يجري ولما يمكن أن تصير إليه الأمور بالنسبة للأجيال اللاحقة التي ترعرعت وتشكلت وجداناتها وعقولها بمواصفات زمنها ، الزمن الذي بات يفرض علينا تطوير مقدراتنا المختلفة من أجل الإسهام في تغييره، وتجاوز لغة التنبيه إلى المخاطر و الآفات – على أهميتها – درءا للخوف و الجمود، وذلك بإحياء بواعث الاستيعاب الواعي لمتغيرات العصر،  وامتلاك أسبابه المؤدية للنجاح والفلاح، فللمستقبل سطوته وكلمته وأهله.

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *