جرثومة السعادة 2/2

الرئيسية » الأعمدة » أوراق » جرثومة السعادة 2/2

أهم ما يمكن استنتاجه من تقرير المعهد العالمي في جامعة كولومبيا الأمريكية حول السعادة في العالم هو أن هذه الكلمة السحرية أصبحت تحتل حيزا معتبرا في الاهتمامات العامة لدى المواطنين الغربيين، إلى الحد الذي فتح لها باب الدخول إلى مراكز للبحث واستقصاء الرأي للوقوف على مؤشراتها.

لكن البحث عن السعادة لو يولد مع هذا التقرير، بل ولد مع الإنسان نفسه وما زال يعيش معه دون أن يراه. من أجل الحصول على السعادة نشأت الحضارات، لكن ليس الحضارات فقط، بل الحروب أيضا. هذا يعني أن شعوبا كثيرة تفهم أن سعادتها في بؤس الآخرين. وعندما نعود إلى قراءة بعض فقرات كتاب”كفاحي”للفوهرر مثلا فإننا نجد أن مفهومه لسعادة الجنس الجرماني مبني على مفهومه لشقاء الآخرين، كأن السعادة لا بد أن تكون نتاج عدم التوازن بين الأجناس البشرية، ونتاج تسلط الأجناس بعضها على البعض الآخر.

قد تعني السعادة الحصول على الثروة، وتحقيق الاكتفاء الذاتي، وهذه قناعة وجدت مع جميع الحضارات التوسعية منذ روما إلى اليوم، ونموذجها الحي هو الحركات الاستعمارية الأوروبية في القرنين التاسع عشر والعشرين، عندما كانت البلدان الأوروبية تتوسع في العالم الثالث بعدما توسعت داخل أوروبا في صراع مرير انتهى إلى المأزق الذي تم حله بالتوافق على اقتسام أطراف العالم المتخلف. كانت السعادة آنذاك يعبر عنها بكلمة مشوشة وواسعة المضامين هي”الرفاه”، وهي كلمة ولدت مع الرأسمالية الغربية تشير بالأساس إلى الوسائل المادية، أي الثروات الطبيعية والبعد الاقتصادي الذي سماه ماركيز”البعد الواحد”، لذلك كانت عبارة”مجتمع الرفاه” تحاول أن تكون مرادفا لـ”مجتمع السعادة”.

هناك مثل أوروبي جميل يقول”الإنسان يكون سعيدا في المكان الذي لا يوجد فيه”. عندما تقف طويلا تحت الشمس فلا بد أنك ستشعر بأنك ستكون سعيدا لو انتقلت إلى الظل، أما إذا طال وقوفك تحت الظل فلا بد أن تشتاق إلى الشمس. المثل عميق وثري بالمعاني ومضمونه الأساسي أن السعادة مثل سراب يركض الإنسان وراءه دون أن يقبض عليه، كلما ركض أكثر كلما اعتقد أنه اقترب أكثر. هذا المثل يمكن التعبير عنه بالجملة التالية”السعادة هي التغيير المستمر في الوضعيات”.

لو أننا أنزلنا هذا المثل الأوروبي على الثقافة الأوروبية الحديثة نفسها لوجدنا أنه لم يكن نشازا أن ولد في هذه الثقافة. إن البحث عن مجتمع الرفاه لم يحقق الرفاه المأمول، لأنه بني على أساس مبدأ”التراكم”، لكن التراكم يتحول إلى ثقل إذا لم تكن بداخله فلسفة تحميه، أو”قيم” كما يعبر اليوم، وبحثا عن هذه القيم، أي السعادة، ولدت في أوروبا نفسها ـ موطن الرفاه والتراكم ـ أكثر الديانات الوضعية الصغيرة أو العصبوية التي سعت إلى تقديم البديل الروحي للإنسان الرأسمالي. من المثير في الأمر أن أوروبا التي انتقدت الخرافة لدى الأجناس الأخرى واعتقدت أنها ارتقت مع كانط والوضعانية هي نفسها التي تتحول إلى بحيرة واسعة تسبح فيها مئات الحيتان من الخرافات. ولدت هذه الخرافات لسبب مشروع، وهو البحث عن السعادة.

وقد انتبه الفيلسوف إريك فروم، عالم النفس الألماني ذو الجنسية الأمريكية الذي توفي عام 1980، إلى هذه الثغرة الموجودة في العالم الغربي الرأسمالي الحديث. بالنسبة لفروم فإن الحضارة الغربية بنت نموذجها(الباراديغم) على التملك، أي التراكم، وليس على الكينونة، أي تحقيق الذات، لذلك كتب كتابه الرائع”نتملك أو نكون”، وهو عنوان إنذاري مقتبس من كلمة شكسبير الشهيرة في مسرحية”هاملت” التي يقول فيها هذا الأخير:”نكون أو لا نكون، تلك هي المسألة”

to be or not to be ; that is the question.

لكن المسألة تبقى بلا حل، لأن الكينونة هي فقط الاعتراف بإنسانية الإنسان والاعتراف بأبعاده المتعددة المشكلة لهويته، أما السعادة فهي اللغز الذي سيظل يحير الإنسان في كل الأزمنة، وسف تظل تلك الجرثومة التي تأكل الإنسان دون أن يتوصل الطب البشري إلى إيجاد علاج لها.

لذلك عندما فهم جبران خليل جبران هذه الحيرة قال بيتين جميلين لا يوجد في تقديري وصف أبلغ منهما للسعادة:

وما السعادة في الدنيا سوى شبح * يرجى فإن صار جسما مله البشر

لم يسعـد الناس إلا في تشـوقـهـم * إلــى المنيع فإن صاروا به فتـــروا.

أليست السعادة، إذن، هي”التغيير المستمر في الوضعيات”؟.

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *