سطوة الاستعجال

الرئيسية » الأعمدة » حروف » سطوة الاستعجال

أصبح إنسان اليوم في عجلة من أمره في كل شيء، مبررا سلوكه الاستعجالي بأنه يعيش عصر السرعة في كل شيء، السرعة في النقل والانتقال للبضائع والبشر والمعلومات، ومن ثم فمن الطبيعي لمن يسعى إلى الفوز الحياتي والتميز الاجتماعي أن يكون أكثر الناس سرعة وعجلة.

فالسرعة والعجلة تحيلان في الاستعمال العربي إلى المبادرة والاستباق، وهما ميزتا الإنجاز الحضاري المعاصر الذي لا يرحم المتمهلين والمتباطئين، لأن لكل وقت أحكاما ومقتضيات ومعايير، ينبغي الأخذ بها ومراعاتها، لكي تكون ابن ذلك الزمن، غير مكتف بمواكبته فقط، بل فاعلا فيه وموجِها، فصراع منظومات القيم لم يعد نظريا فلسفيا، أو مفاهيميا مصطلحيا، أو عمليا سلوكيا، بل أضحى مجاله عبارة عن أحوال وعوالم نفسية، تتفاعل مع ما انفجر من مستجدات تقنية ومعلوماتية، بحيث لم تعد الحدود واضحة بين الافتراضي والواقعي، مما انعكس بشكل كبير على إيقاع الحياة نفسه، والذي قطع مع الرتابة والانتظام، ودخل في ما يمكن تسميته بالفجائية والفوضى، مما يستوجب وعيا جديدا ينحت مفاهيم إجرائية، تتمتع بمقدرة الوصف والتفسير، وتتجاوز المألوف من الخطاطات السابقة المنحبسة في ثنائيات التقدم والتأخر، وغيرها من البراديغمات التي سئمها أبناء اليوم، لأنها بكل بساطة لا يجدون فيها أنفسهم، ولا تفي بمقتضى رؤيتهم للعالم الصغير جدا، والمطبوع بالتشابه والتماثل في كل شيء بفعل العولمة الشاملة.

الجميع إذن يعيش حالة الاستعجال،وهي حالة تفاوتت صورها و تجلياتها من بلد إلى آخر أو جماعة دون أخرى، أو فرد دون غيره، لاختلاف الشروط التي ولدت هذا الشعور بالسرعة، والذي يلحظ من خلال شيوع الرسائل القصيرة على الهواتف، والتغريدات على التويتر، وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعية، مما يجعل الفرد متصلا على الدوام عبر الأنترنت من خلال محموله أو هاتفه الذكي مع العالم، في شكل تفاعلي مستمر ألغى المسافات، وقلص مشاعر الاستحالة وعدم الإمكان في النفوس، فكل شيء متوفر، وفرص النجاح والتألق والشهرة والثراء لا تحتاج لزمن طويل يستغرق عمرك، ويأتي على أنفاسك الغالية، هناك العديد من الطرق المختصرة والسريعة وفرص الحياة لنيل المراتب التي كانت الأجيال السابقة تفني فيها أعمارا وأوقاتا، كل شيء سهل وقريب وسريع المنال، فالأفعال سريعة وردود أفعالها كذلك، مما قلص مساحات التأمل والاختبار والتحليل والنظر في العواقب، لأن مثل هذه الأمور تعوق السير الحثيث نحو الهدف المرسوم، وهو النجاح بأي ثمن، وإن كان على حساب أشياء أخرى، إنها الفردانية في أخطر تحققاتها في العصر الذي نعيشه، والتي اتحدت بالاستعجال، لتجعل المستقبل مشرعا على كثير من المحاذير والمخاطر، والتي تستوجب الوقاية والعلاج، لأنها تهدد النوع البشري في كينونته وهويته الإنسانية، فالوسائل الناجعة إذا انفصلت عن المقاصد النافعة صارت وبالا في الحال أو المآل، فهاهنا يمكن أن يتحرك العقل المبدع ويخترع من الحلول ما يسهم في البناء الحضاري اليوم ويكف عن البكاء على الطلل وتمجيد الماضي، فالسابقون قد واجهوا صعاب زمنهم ومعضلاته بشجاعة واجتهاد، فما على اللاحقين سوى العمل والمسارعة إلى الخيرات في غير عجل.

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *