دوستويفسكي

الرئيسية » الأعمدة » أوراق » دوستويفسكي

ما زال الروائي الروسي فيدور دوستويفسكي، الذي عاش في القرن التاسع عشر، يأسر القراء في كل مكان من العالم وما زالت رواياته تترجم وتعاد ترجمتها وتكتب عليها الهوامش والترقيعات، وما زالت المجلات الثقافية والأدبية العالمية تعيد تقديمه للقراء مجددا في كل مرة، مثلما فعلت”ماغازين ليتيرير” في أحد أعدادها السابقة.ويقول النقاد إن نصوص صاحب”الجريمة والعقاب”من الصعب إخضاعها للترجمة بشكل نهائي وناجز، وإنها من النصوص المنفلتة التي تنطبق عليها المقولة الرائجة”الترجمة خيانة”، ولكن ما العمل مع من لا يريدون تعلم الروسية؟.

يقف دوستويفسكي إلى جانب تولستوي وجوجول وتورجينيف ومكسيم غوركي، زعماء روسيا القرن التاسع عشر الأدبيين، شاهدا على أن البشرية لا تزال تقرأ تلك النصوص بعد قرن من كتابتها وبشكل يومي، لأنه في الوقت الذي يكون فيه قارئ في آسيا قد أنهى قراءة رواية له يكون قارئ آخر في أمريكا قد فتح الصفحة الأولى منها. هكذا عبرت نصوص دوستويفسكي والآخرين حدود التاريخ وكانت تستقر مع كل جيل، ولذلك يعتبر النقاد أن روايات دوستويفسكي ما زالت تتربع على عرش الحداثة الأدبية بعد مائة عام من كتابتها. لكن ما هو السر؟.

النقاد الذين ساهموا في تحرير ملف المجلة الفرنسية الشهيرة أجمعوا على صعوبة تفكيك جميع شفرات أو طلاسم النص الدويستويفسكي، وهكذا نكون أمام معادلة سيئة، وهي أن عبقرية الكاتب تقابل هنا جهالة القارئ، وأن لا وجود لقارئ عبقري أو على الأقل قارئ يكون في مستوى الكاتب لدى كتابة عمله، لأن العمل أحيانا قد يتجاوز صاحبه مع الوقت ويصبح هو نفسه مضطرا لمنح تفسيرات جديدة لقضايا سابقة طرحها فيه. ولكن دوستويفسكي استمر حاضرا لهذا السبب بالذات، أي غياب تفسير نهائي لأعماله الروائية، فالألغاز لديها دائما القوة على البقاء لأنها تتحدى الناس وتحفزهم، وهذا هو أيضا ما جعل لوحة ليوناردو دافنشي الشهيرة تعيش من القرن السادس عشر إلى اليوم، لأن الجيوكاندا ظلت توهم البعض بأنها ضاحكة وتوهم آخرين بأنها مبتئسة، ولو أجمع الناس على أمر واحد لما وصلت إلينا أو لما كان لها هذا الحضور في التراث الفني لعصر النهضة في أوروبا.

كاتب افتتاحية العدد اعتبر بأن الكاتب، حصرا، ظل في روسيا بمثابة”البديل”الذي يتم اللجوء إليه في غياب وجود بديل سياسي، وأن هذه المسألة بقيت موجودة في روسيا منذ القرن الثامن عشر. أما جورج بيفات، الناقد المختص في أدب دويستويفسكي، فقد أكد بأن جميع من قرأوا هذا الأخير أهملوا الجانب الأكثر أهمية فيه، وهو أنه لعب دور المحرض السياسي في مواجهة سلطة قيصرية غاشمة. لقد رأى دوستويفسكي أن روسيا القرن التاسع عشر هي مجتمع عبودي بامتياز، وفي كتابه”مذكرات منزل الأموات” يعطي صورة ساخرة عن ذلك الوضع الطبقي حينما كان على متن عربة تجرها الجياد، فالقيصر يضرب الأعيان، والأعيان يضربون المواطنين، والمواطنون يضربون الجياد. ورغم أن الكثيرين رأوا في أدب دويستويفسكي إرهاصا بالثورة الروسية، التي حصلت بعد رحيله بسنوات، إلا أن الثورة هي أول من حاربه رغم أن الكثيرين أطلقوا عليه وقتها لقب”نبي الثورة” ، فقد منعت بعض أعماله في عهد لينين، ثم منعت جميعها في عهد ستالين، ولم يرفع عنها الحجر إلا مع ظهور البيريسترويكا في نهاية ثمانينيات القرن الماضي التي مهدت لتفكك الاتحاد السوفياتي، الذي كان بمثابة”منزل أموات” بالنسبة للقوميات المتعددة، وذلك لأن الثورة الروسية ظلت ترى فيه المحرض الدائم ضد الأوضاع الفاسدة، وهذا يعني ـ بالنتيجة ـ أن تلك الأوضاع بقيت قائمة، لأن ما قامت عليه هو نفسه ما ظل دوستويفسكي يحاربه طيلة حياته: تحويل البلاد إلى معتقل كبير والحد من حرية الإنسان.

وبالرغم من مرور قرن على كتابات دويستويفسكي إلا أن أدبه ما يزال ـ كما كان دائما ـ يقرأ من زوايا عدة، فهو ملحد لدى البعض، ومؤمن لدى آخرين، ومتمرد أو مسالم بحسب النقاد، ومريض نفسيا أو عبقري بحسب المحللين لأدبه، ولعل هذا ما جعل الثورة الروسية تحاربه بدل أن تجعل منه تراثا قوميا أو عالميا، مثلما فعلت اليونسكو عام 1981 في الذكرى المائوية لرحيله، إذ حاولت أن تقرأ فيه الرجل الذي يدعم الإيمان الديني في الوقت الذي كرست هي نفسها لمحاربته، بسبب قولته الشهيرة”إذا أثبت لي أحدهم أن المسيح بعيد عن الحقيقة، وأن الحقيقة توجد خارج المسيح، فسأختار المسيح”، القولة التي سوف يحرفها ألبير كامو فيما بعد ليقول”إذا خيرت بين أمي والعدالة فسأختار أمي”.

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *