يحيل مفهوم “الهوية الثقافية” إلى شعور أفراد جماعة من الجماعات بالانتماء إلى ثقافة مشتركة. فهو يحيل إلى الجماعة وما تؤمن به من معتقدات وأفكار وتصورات، وتمثلات عن أصولها الاجتماعية وموطنها وموروثها التاريخي وطريقة عيشها، وما يترتب عن ذلك من دور فعال في ربط أعضاء الجماعة ببعضهم البعض، على النحو الذي يجعلهم متماثلين في نمط حياتهم، ومعتقداتهم، وكذلك يجعلهم متباينين على ذوي الثقافات الأخرى وأنماط حياتها. وهكذا تنهض الهوية الثقافية بوظيفتين جوهريتين:
1. تكسب أعضاءها؛ حس الانتماء المشترك من خلال تعزيز الاعتقاد بتماثلهم في الأصول والمعتقدات والموروث الثقافي والخبرة التاريخية..
2. تقوم بدور المصفاة، وذلك بفرز كل ما لا ينتمي إليها وتمييزه عنها؛ فهي بذلك تميز بين المنتمين إليها وغير المنتمين إليها. وبذلك فإن الهوية الثقافية لا تتحدد إلا من خلال تباين الذات وتمايزها عن “الآخر”.
وفي هذا السياق فإن سؤال الهوية عادة ما ينطرح لدى الأيديولوجي والسياسي في سياق وظيفي يستهدف الحشد والتجيش لتشكيل قوة إستراتيجية أو قوة سياسية أو مجرد جماعة ضغط لانتزاع مطالب محددة.
وبهذا فإن سؤال الهوية يستدعي طرح أسئلة فرعية أساسية:
– “من نحن؟”؛ بحيث كلما كانت هناك أزمة هوية ناتجة عن ظرفية اقتصادية، سياسية أو اجتماعية كلما أخذ هذا التساؤل بعد إستراتيجيا.
واقتضى الأمر إيجاد جواب ناجع عن هذه الوضعية من خلال حشد الناس ضمن مجموعة من المثل والرموز والقيم والمطالب..
غير أن سؤال “من نحن؟” يستهدف، أبعد من عملية الحشد وأبعد من ضرورة التعارف بين الأصدقاء بتحديد الأعداء.
ولذلك فإن سؤال “من نحن؟” في غياب فلسفة غيرية من شأنها أن تأخذ صيغة: “من هو عدوي؟”.
وهكذا يغدو هذا السؤال إقصائيا بشكل جوهري؛ بحيث نجده يقسم الناس، من الناحية الأيديولوجية، بين أصدقاء وأعداء.
وهو ما جعل البعض يعمم الحكم معتبرا أن خطاب الهوية (Le discours identitaire ) خطاب إقصائي بطبيعة؛ فبرسمه لمجال الحشد والتجميع يقوم بتحديد الآخر كخصم، بل كعدو (فعلي أو محتمل).
فالوظيفة الأولى لخطاب الهوية باعتباره إيديولوجيا تكمن في ضرورة التعرف بين أصدقاء يشاركون في معركة سياسية على نفس الجانب، في مواجهة جانب الأعداء.
ولذلك كل معسكر يحتاج إلى علامات ورموز، وشعارات، سعيا لتجميع وحشد أنصاره وإقصاء الآخرين، وهكذا يبدو خطاب الهويات وسياسات الهويات وكأنها خطابات وسياسات للإقصاء المتبادل..
ولتجاوز هذا البعد الإقصائي اقترح الفيلسوف الأمريكي “رورتي” (Richard Rorty) تجاوز تساؤل (من نحن؟) والاستعاضة عنه بسؤال (من نكون؟) (?Qui sommes-nous). فمن نكون؟ تحدد “النحن” بالنظر إلى باقي الأنواع، مع التركيز على ما يشكل الجوهر الإنساني. هناك، إذن، عودة إلى السؤال الكانطي عن الماهية الإنسانية فيما يتجاوز الاعتبارات الأيديولوجية والسياسية.
لكن، رغم أهمية التصور الذي يقدمه “رورتي” إلا أنه لا يكفي لحل إشكالية الهوية. وهي الإشكالية التي يقدم التصور الإسلامي من خلال منظومة قيمه في التعددية، والاختلاف، والغيرية، والمساواة، والحرية.. إطارا بالغ الغنى لمعالجتها معالجة منفتحة جامعة ومستوعبة؛ كفيلة بتجاوز البعد التعاقدي إلى البعد التعارفي والتراحمي..