القرآن الكريم مؤسِّسا لإجماع الأمة اليوم 5/6

الرئيسية » الأعمدة » بصائر » القرآن الكريم مؤسِّسا لإجماع الأمة اليوم 5/6

الإجماع والوعي الجمعي في السياق المعاصر

يُعدُّ “الإجماع”(1) عند جمهور علماء المسلمين ثالث مصادر التشريع الإسلاميَّ، بعد القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ويحتلّ هذا الأصل في الفكر الأصولي مكانة رفيعة؛ إذ ظلّ طوال قرون الأصل المهيمن الذي يحتجّ به في إثبات دعوى، ودحض أخرى، والمعيار الذي توزن به سائر الأدلّة .

وقد بذل الأصوليون، منذ الشافعي إلى اليوم(2)، جهودا كبيرة من أجل تقنينه وضبطه، كما اختلفوا في تعريفه، وفي تأسيسه، وفي إثبات حجيته (أي كونه أصلا)، وفي قبوله، وفي إمكان انعقاده، وفي كيفية حصوله، وفي تحديد زمنه الخ… يقول الزركشي”..وأطلق جماعة من الأصوليِّين بأنه حجَّة قطعيّة. وإنَّه يقدمَّ على الأدلة كلها، ولا يعارضه دليل أصلاً…”(3). و هو ما قرّره ابن حزم في كتابه “مراتب الإجماع”، قائلاً: “إنَّ الإجماع قاعدةٌ من قواعد الملَّة الحنفيَّة، يرجع إليه، ويفزع نحوه”(4).

والناظر في آي الذكر الحكيم، يجد جذور مصطلح الإجماع حاضرا في ثناياها، كما في قوله تعالى: ﴿فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابات الجبِّ وأوحينا إليه لتنبِّئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرن ﴾[يوسف:15] وقوله جلَّ جلاله في السورة نفسها: ﴿وماكنت لديهم إذ اجمعوا أمرهم وهم يمكرون﴾ [يوسف: 102]، وقوله سبحانه في سورة يونس ﴿فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمَّة ) [يونس: من 71]، وكذلك قوله عز وجل في سورة طه ﴿فاجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفَّاً وقد أفلح اليوم مـن استعلى﴾ [طه: 64]..

ونظرا لما يكتنزه هذا الأصل من إمكانات هائلة لرص جهود علماء الأمة وتكامل كسبهم في وظيفية ووحدة، فإن التشمير لإعادة استكشافه وتفعيله أضحى اليوم من أوكد الواجبات. فإنه لا يخفى أن وحدة الأمة وتماسكها، فريضة ثابتة، قال تعالى: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا﴾ [آل عمران: 103]، وقال تعالى أيضا: ﴿ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين﴾ [الأنفال: 46]، وقال: ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس﴾ [آل عمران: 110].

هذه الوحدة التي شملها القرآن المجيد بندائه: ﴿يأيها الناس﴾، وفي حين آخر بندائه: ﴿يا بني ءادم﴾، و﴿يا أيها الذين آمنوا﴾، حيث لا تبرأ ذمم المسلمين إلا بالسعي في سبيل تحصيلها، وتثبيت أركانها، وإقامة بنائها، وقد جعل سبحانه من وسائل تحقق هذا المبتغى اتباع “سبيل المومنين”، فقال سبحانه: ﴿ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً﴾ [النساء:115]، وقال سبحانه أيضا: ﴿ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجهوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجهوهم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون. وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون﴾ [آل عمران:107]، وقال تعالى: ﴿إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء﴾ [الأنعام: 159]، والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً مما يدل على وحدة الأمة  عقيدة ومنهجاً، أمر واجب.

وقد تمثلت بداية نشأة فكرة الإجماع في تبني المنهج الجماعيِّ في القضايا والنوازل والمستجدات التي تعمُّ فيها البلوى وتشمل جميع أفراد الأمّة حديثة التكوين بطَيْبة الطّيبة، وقد انطلقت الفكرة الإجماعيّة عصرئذٍ من مبدأ قوامه أنَّ ثمَّة جماعةً متضامةً ومرتبطةً ذات هدفٍ واحدٍ (أمة)، وغايةٍ واحدةٍ، ومنهج حياة واحدٍ،  وأن ما يهمُّ عموم الأمة لا يفصل فيه إلا الأمَّة نفسها، أو عن طريق خبرائها وأبنائها، وأهل الدراسة والاختصاص والمعرفة بحقيقة النازلة ومآلاتها وآثارها على عموم الأمَّة.

>و”الأَمُّ” في لسان العرب: مداره على القصد، قال ابن منظور: “وأصل هذا الباب كله من القصد. يقال: أمَمْتُ إليه: إذا قصدتُه؛ فمعنى “الأُمة” في الدين، أن مقصدهم مقصد واحد… ومعنى “الأُمة” في الرجل المنفرد الذي لا نظير له، أن قصده منفرد من قصد سائر الناس… ومعنى “الأُمة”، القامة، سائر مقصد الجسد. وليس يخرج شيء من هذا الباب عن معنى “أممتُ”: قصدتُ”.(5)

ويمكن للراصد أن يلاحظ تكرار ظهور الحاجة إلى تكوين رأي جماعيٍّ من قبل الجماعة الإسلاميِّة كلما داهم الحياة العامة شأنٌ تعم به البلوى ويتجاوز الأفراد إلى المجتمع بأسره، فقد كان المصطفى –صلّى الله عليه وسلّم- يجمع صحابته- عليهم رضوان الله- فيستشير الخاصَّة من أهل المعرفة والخبرة فيما ينبغي اتخاذه من تدابير ومعالجاتٍ لمختلف النوازل.

وخلاصة القول، إنَّ مفهوم الإجماع والوعي الجمعي في العصر الرساليِّ، والذي كان قائما على الأصول القرآنية المذكورة في المباحث السالفة، كان جليّ المعنى، وحيويّاً فاعلاً في حياة الأمة، كما تميز وجوده بالواقعيَّة والحضور في سائر النوازل والحوادث التي تتسم بالعموم.

وكان لهذا الإجماع دور كبير في الاستقرار و الأمن الذي طبع سياسة الأمة في تلك الفترة، فالأمة في عمومها، كانت تتحمل تبعة الرأي الجماعي الذي يشكله أهل الشأن والدراية بموضوع الإجماع.

والنظر المتملي في منهج جيل التلقي، أثناء تعاملهم مع مختلف النوازل والمستجدات السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديِّة، يهدي المرء إلى القول بأن الإجماع كان امتداداً للمنهج النبويِّ في المعالجة والطريقة، كما كان انعكاساً للتربية النبويِّة التي ربَّى –صلَّى الله عليه وسلَّم- بها أولئك الصحب خلل سنوات البعثة.

إن إعادة الواقعية والفعالية إلى مفهوم الإجماع والوعي الجمعي، مرهونة باستبانته على ما كان عليه في أصله، وتجريده من المعاني المثالية التي نسجت حول مفهومه، وحول المؤهلين لعقده، ومجالات توظيفه والمسائل التي يمكن توظيفه فيها. ولن تستطيع أُمتنا أن تقوم بكل ذلك، قبل أن تعيد بناء عالم أفكارها ودعائم ثقافتها، ومناهج معرفتها، وقواعد علومها؛ بحيث يعاد تشكيل وجدان وعقل المسلمين، في انفتاح على هاديات الكتابين؛ المنظور والمسطور، وإتقان للجمع بين قراءتيهما.

 ويسجل، بهذا الصدد، أن معظم الباحثين في الإجماع لم يعنوا بتأصيل القول في جانبين مهمين منه الإجماع:

الأول: طبيعة المسائل التي ينبغي أن يوظف الإجماع في التصدي لها.

وأما الثاني: فيتمثل في البحث عن الوسائل الكفيلة بتجاوز اعتبار الفكرة الإجماعية شأناً فكرياً بحتاً، إذ إنها شأن أمة، ومن ثمّ،  فإنه يدخل في أهل الإجماع رجال الحكم والقيادة، بالإضافة إلى جماعة أهل العلم والمعرفة والدراية في كل المجتمعات.

 وهو ما يفرض واجب البحث والتفكير لتجريد سائر السبل والوسائل، المعينة على إعادة الحيوية والفعالية إلى هذا المصطلح، وحتى يؤوب أبيض من غير سوء سيرته الأولى التي كان عليها في العصر الرسالي والراشدي، حتى يمكن توظيفه للتصدي للنوازل الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية الحارقة التي أضحت تمور في ساح الأمة في هذا الزمان.

مما يستدعي ضرورة إعادة وضع تصور عملي لمفهوم الإجماع والوعي الجمعي، ينطلق من القيام بجملة مراجعات، في مقدمتها المراجعة في ضوء النسق القرآني، ذلك أن للقرآن المجيد مقاصده العليا الحاكمة، وكلياته، وسننه وقوانينه، ومحدداته المنهاجية، وخصائص فهمه وفقهه ومحاوره، التي ينبغي أن تتم في إطارها هذه المراجعة، التي سبقت الإشارة إلى بعضها في المقدمات التأسيسية.

وكما يؤسِّس الإجماع الاجتهاد، فإنه يحكمه أيضا؛ ذلك أن سلطة الإجماع لا تقف عند حدود تأسيس “النص” تأسيسا أصوليا، بل تتعدى ذلك إلى مضمونه.. كما تفتح آفاق الاضطلاع بدور اللحمة والسدى في أمة أنهكتها الخلافات والصراعات بمختلف الأنواع والنكهات.

مما يجعل عملية المراجعة هذه، عملية معرفية منهجية ضرورية، تحتاج إلى فرق بحثية جماعية، تضم علماء في مختلف التخصصات، لتحقيق شرطي الدقة والنجاح.

إن أهمية هذه المراجعة تكمن في أنها لا تستجيب لهدف أكاديمي بحثي فقط، بل تشفع ذلك بهاجس حضاري؛ وهو هاجس التأسيس، الذي يحمل في طياته رؤية للعالم فاعلة تحرك الأمة، وتنتج المفاهيم والقيم والضوابط لهذه الحركة والفاعلية.. وهي رؤية منبعها الأساس، الرؤية القرآنية الكونية الحضارية، بقيمها ومفاهيمها ومبادئها وثوابتها، وفي ذلك إحياء لسيرة المفهوم، وواقعيته، وفاعليته، ووظيفيته التي كان يتسم بها خلال العصر الرسالي والراشدي على مستوى اتخاذ القرارات الخاصة بنوازل وأزمات الأمة العامة.

ومن الوظيفي، استحضار الوعي بأن هذه العوائق حين استحكمت، صيرت الأمة الإسلامية، في كثير من مناحيها وأبوابها، تنسد مناهج الاجتهاد والإبداع فيها، مما يستدعي مراجعات في ضوء إدراك هذا التمزق بمختلف تمظهراته، واستحضار المداخل المسهمة في النأي بالأمة عن واقع التعضية والتشظية.

(1) ـ الإجماع بتعريف بعض الأصوليين هو: “اتفاقُ المجتهدينَ من أمَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم بعدَ وفاتِهِ ، في عصرٍ من العصورِ ، على حُكْمٍ شرعيٍّ ” . وعرَّفه آخرون بأنه: “اتفاقُ المُكَلَّفينَ من أمَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، في عصرٍ من العصورِ ، على حُكْمِ واقِعَةٍ من الوقائِعِ” . وقال آخرون هو : “اتفاقُ أمَّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم خاصَّةً على أمْرٍ من الأمورِ الدِّينيَّةِ ” .

(2) ـ من تتبّع موارد استعمال هذا المصطلح في المدونات الأصوليّة يتبيّن له أنّ أهل العلم يطلقونه على أحمد أمرين:

الأوّل: أن يتّفق المسلمون جيلا بعد جيل على نسبة قول أو فعل أو هيئة إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.

والثّاني: أن تُطْبِق كلمة مجتهدي عصر من العصور على حكم لدليل عيّنوه واتّفقوا على العمل بمقتضاه

(3) ـ البحر المحيط في أصول الفقه، 4/443

(4) ـ مراتب الإجماع، ص7

(5) ـ لسان العرب، لابن منظور، مادة “أمم”

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *