روجيه غارودي... كبير الإنكاريين

الرئيسية » تربية وتكوين » روجيه غارودي… كبير الإنكاريين

يوم الأربعاء الماضي توفي الفيلسوف الفرنسي روجي غارودي عن 99 سنة، قضى جلها في التنقل بين الأفكار والنظريات إلى أن رسا على الدين الإسلامي في بداية الثمانينات من القرن الماضي، وفي الدعوة إلى القيم في الحضارة الغربية وحوار الحضارات والثقافات، خلف خلالها العشرات من الكتب التي نقل جلها إلى اللغات الأخرى ومنها اللغة العربية، أبرزها كتابه “حوار الحضارات” الذي صدر عام 1977 وصدر بالعربية في السنة التالية عن سلسلة عبيدات ببيروت.

وجاء نعي غارودي بعد اختفاء طويل عن الساحة السياسية والفكرية والثقافية في فرنسا والعالم، ظل يقاسيه في عزلته منذ فترة طويلة بسبب كتابه ذائع الصيت “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية” الذي نشره عام 1996 وشكك فيه في الرواية اليهودية والغربية “الرسمية” حول محرقة اليهود ورقم الستة ملايين الذين تم إحراقهم في أفران النازية. فقد أثار الكتاب وقت صدوره دويا هائلا في فرنسا وعموم أوروبا وحتى في العالم العربي الذي تهافت على الترجمة العربية. ولم يكن السبب فقط هو ما صرح به غارودي في الكتاب، ذلك أن قائمة التشكيكيين أو الإنكاريين في المحرقة (negationnistes)  طويلة، بقدر ما كان السبب أن ذلك التشكيك صدر هذه المرة عن أهم فيلسوف في فرنسا له جمهور عريض ينصت إليه، وفوق ذلك لديه سمعة واسعة في العالم العربي والإسلامي منذ إعلانه عن دخول الإسلام عام 1982، ولهذين السببين كان كتابه بمثابة قنبلة تفجرت في فرنسا وطارت شظاياها إلى أكثر من مكان، وسرعان ما حوكم الرجل بمقتضى قانون”غيسو” الذي ينص على معاقبة إنكار المحرقة اليهودية، والذي لا زال واحدا من العلامات الباقية عن عقلية محاكم التفتيش في أوروبا المسيحية خلال القرون الوسطى، تحاول فرنسا اليوم إيجاد قانون شبيه له لمعاقبة إنكار مذابح الأرمن على يد الأتراك.

نشأ غارودي في أسرة بروتستانتية لكنه تخلى عن الإيمان الديني عندما تعرف على الماركسية في وقت مبكر، ومنذ ذلك الوقت ارتبط اسمه بالحزب الشيوعي الفرنسي الذي كان أحد كبار منظريه، خصوصا بعد رحيل مثقفيه البارزين أمثال الشاعر والروائي لوي أراغون. بيد أن نداء الدين ظل يطن في وجدانه طيلة مرحلة اعتناقه الماركسية، وهو ما جعله ينحاز إلى المثالية الاشتراكية ويرفض الماركسية الجامدة والصرامة النظرية ويسعى من تمة إلى المصالحة بين الدين والماركسية من خلال الأخلاق، أي أنه أراد أن يعيد إلى الماركسية ما طردته منذ نشأتها من حظيرتها، وهو الإيمان الديني، وكان هذا واحدا من الأسباب التي خلقت الصدام المؤدي إلى الطلاق بينه وبين الحزب الشيوعي عام 1970، سنتين بعد انتفاضة الطلاب التي كانت عاملا محفزا لغارودي من أجل القيام بعملية مراجعة.

بعد ذلك تحول إلى الكاثوليكية، وقضى مرحلة من الحيرة الفكرية التي تذكر بتجربة أبي حامد الغزالي وهو ينتقل من الفلسفة إلى التصوف، وفي هذه المرحلة نشر كتابه “البديل: تغيير العالم والحياة” (1972) الذي بدأت فيه أولى بذور التفكير في الإسلام، لأن غارودي حاول فيه أن يقدم رؤية أخلاقية للتغيير عبر المزاوجة بين الأخلاق المسيحية والأخلاق الإسلامية، خصوصا التصوف، من دون أن يتخلى عن الماركسية نهائيا.

وقد عرفت النخبة المغربية روجيه غارودي في وقت مبكر، ذلك أن كتابه في النقد الأدبي “واقعية بلا ضفاف” الذي صدر عام 1963 وشكل مدرسة في النقد الماركسي انتشر في العالم العربي ومنه المغرب، وتلقفه المثقفون المغاربة بشكل كبير، كما كانت كتاباته الماركسية الأخرى كراسات يتناقلها مثقفو اليسار المغربي في فترات الستينات والسبعينات.

وبعد قطيعة غارودي مع الحزب الشيوعي الفرنسي، وبداية “مروقه”، بدأ المثقفون اليساريون ـ سواء في العالم العربي أو في المغرب ـ ينفضون من حوله، بسبب توجهه الديني الذي بدأ في مستهل السبعينات من خلال توجهه من جديدة نحو المسيحية بحثا عن الذات. وفي هذه المرحلة أصبح غارودي شبه محسوب على التيار المناوئ للاشتراكية في العالم العربي، باعتباره صوت المراجعة أو النقد في المدرسة الاشتراكية الكلاسيكية. وعندما صدر كتابه “البديل” ـ الذي مثل بداية التوجه الجديد لديه، كتب عنه العلامة علال الفاسي مقالا مطولا (يونيو 1973) تحت عنوان”بديل البديل” نشر في كتيب في السنة التالية بعد أسابيع على رحيله. وقد ناقش علال الفاسي الأفكار الواردة في الكتاب وتوقف عند إعجاب غارودي بما أسماه “الأخلاقية الجديدة في الصين” بسبب قطع النموذج الاشتراكي الصيني مع حضارة روسيا والغرب معا، المؤسسين على الحضارة المادية، وتوقف عند تساؤلاته عن “الغائية الإنسانية”، وأبدى إشادته بالخلاصة التي خرج بها غارودي في نهاية كتابه وهي أن “الاشتراكية والحرية غير الممنوحين من الخارج والمنتزعين من قبل الشعب انتزاعا، تقتضيان أن يترافق تغيير البنى بتغيير الضمائر”، ثم يذكر علال الآية الكريمة “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” ويقول بأن النفس هنا تعني الضمير، ويقول “ومهما تكن مقاصدنا مختلفة مع جارودي فالتغيير في الضمير شيء لا بد منه لكل ثورة وبناء”. وفي آخر ذلك المقال الطويل يقول علال “لقد وجدت في (البديل) أفكارا كثيرة تتفق مع ما أعتقد أن الوطنيين المغاربة، ولا سيما الاستقلاليين منهم، يدركونه وينادون به، ولعل في الطريق الثالث الذي نسميه التعادلية ما يمكن أن يكون البديل عن كل ما لا يتفق مع الإيمان ومع الكتلة الجديدة التي تعمل للديمقراطية الواقعية”.

وكانت فراسة علال الفاسي في مكانها، إذ لم تنقض سوى بضع سنوات حتى أعلن غارودي اعتناقه الإسلام عام 1982، واختير عضوا في المجلس الأعلى العالمي للمساجد في رابطة العالم الإسلامي وأصبح رمزا لدى المسلمين ونموذجا لانتصار الإسلام على الغرب. غير أنه بمثل ما كان قد اختار الجانب المثالي من الماركسية اختار بعد الثمانينات الجانب “المثالي” في الإسلام ـ إن صح التعبير ـ وهو التصوف، طارحا عنه الفقه، وهو ما أسقطه بعد ذلك في عدة مواقف جرت عليه انتقادات واسعة في العالم الإسلامي، بسبب ذلك الفهم الخاطئ للانفصال بين الفقه والتصوف في الإسلام الذي أدى به إلى أفكار “باطنية” مثل قوله بأن الصلاة مفروضة ثلاث مرات في اليوم فقط بدل خمس، مغلبا المعنى اللغوي والروحي للصلاة على معناها الفقهي، ونفس الأمر فيما يتعلق بموقفه من الصيام الذي اعتبر أنه لا يعني الانقطاع عن الأكل والشرب بل هو معانيه الروحية فحسب. وكل هذه الأفكار كان من الواضح أنها نتجت عن فهم مغلوط لكتابات بعض الصوفية أمثال ابن عربي سببت لديه ارتجاجا. وأثارت تلك المواقف التي نشرت في النصف الثاني من التسعينات في حوار مع “المجلة” السعودية زوبعة كبيرة، وأصدر المفتي العام للمملكة العربية السعودية عبد العزيز بن باز فتوى يعتبر فيها غارودي ملحدا وكافرا لا مرتدا، لأنه رأى أنه لم يكن على الإسلام ولكن كان يخفي في صدره قناعات أخرى.

غير أن غارودي تراجع عن تلك الأفكار فيما بعد، واستمر في كتابته عن الإسلام وحوار الحضارات، بيد أن الاتجاه الفكري الذي اختاره، وهو المكافحة ضد منظومة القيم اليهودية ـ المسيحية سبب له العزلة من المحيط الفكري والثقافي الغربي والفرنسي بشكل خاص، إذ أصبحت بعض الصحف البارزة التي كانت تحتفي بمقالاته ترفض نشر ما يكتبه، نزولا عند ضغط اللوبي الصهيوني في فرنسا الذي كان يحول بينه وبين الظهور في وسائل الإعلام.

إدريس الكنبوري

@@

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *