يعتبر عبد الله كولن أشهر داعية إسلامي في تركيا وأكثرهم إثارة للجدل ويدير أنصاره عددا كبيرا من المؤسسات التعليمية من مدارس ومعاهد، إضافة إلى مستشفيات وعدد من الصحف ومحطات التلفزة، كما يُعد في الوقت ذاته كابوسا لمنتقديه. دانيال ستينفورث من اسطنبول يسلط الضوء على هذه الحركة والجدل حولها.
مصلح عصري أم له أجندات أصولية؟
ما هي ملامح أي مدرسة إسلامية؟ أَمكتوب فيها سِوَر من القرآن على الجدران، أم بها أماكن للصلاة، أم يُفصل فيها بين الصبيان والبنات في الفصول؟ مدرسة “جوفنتاش الثانوية Güventas-Gymnasium” في مدينة قونيا الصناعية الواقعة في قلب الأناضول ليس لها مثيل، فهي ذات مبنى جديد ونظيف، وبها معمل كيميائي في الطابق الرابع، وفناؤها مكسوّ بالحشائش أمامه مقصورة صينية، وفي المدخل تمثال نصفيّ من الفضة لأتاتورك. وبوّابها يطرد البنات المحجبات كما هو الحال في كل أنحاء تركيا.
بالعين المجردة لا يمكن للمرء أن يرى شيئا من مظاهر التديّن في المدرسة الإقليمية حديثة الطلاء، ويؤكد ذلك مدير المدرسة عادل خالد عاليجي قائلا: “الإسلام عندنا يُعتبر من الأمور الخاصة. وليس هناك سوى حصة واحدة في الأسبوع للتربية الدينية”. كما أن الجدول الدراسي للمدرسة مفروض من قِبل الدولة، مثل تحية العلم في طابور الصباح لمؤسس الجمهورية أتاتورك. ولكن هناك شيء ما غير عادي في “أفضل مدرسة ذات الخرّيجين الممتازين بمدينة قونيا”، كما يقول أحد الآباء المولعين بالمدرسة قبل أن تلتحق ابنته بها.
مخاوف وتحذيرات
وبعدُ، فمدرسة “جوفنتاش الثانوية” ليست كأي مدرسة تركية عادية. فهي مؤسسة خاصة وواحدة من مئات المدارس التابعة لأكبر حركة تعليمية إسلامية على مستوى العالم المسمّاه “حركة فتح الله كولن”. وهو اسم يجعل ناقوس الخطر يدق عند ذِكره في أنقرة العلمانية. هذه الشبكة الغامضة تثير استياء صفوة رجال الحكومة، حتى إن بعضهم يعتبر أتباع الخطيب المسلم كولن، الذين يُطلق عليهم أيضا “فتح اللهيين”، أكبر خطر يهدد تركيا منذ تأسيس الجمهورية.
وتحذر صفحات الانترنت – مثل vatanhainleri.wordpress.com (ومعناها خونة الوطن )
من عودة تركيا إلى العصور الوسطى أو من ملايين النساء المحجبات أو من تطبيق النظم الإسلامية في العقوبات. واحتار معلّقون أمثال يوسف كانلي فيما إذا كانت هذه الحركة تريد إحياء الخلافة خطوة خطوة في الخفاء بوسائل التلقين السرية والمدارس والجامعات والإعلام.
وجاء التحذير أيضا من الخارج، حيث قارن مايكل روبن Michael Rubin
– أحد العاملين سابقا بالبنتاجون ـ والذي يعمل حاليا بمعهد أمريكان انتربرايز التابع لتيار المحافظين
كولن المقيم في المنفى الأمريكي بالإيراني المتوفى آية الله خوميني. ويقول روبن متشائما: “سوف تُصبح اسطنبول عام 2008 شبيهة بطهران عام 1979”. ويحذر من عودة كولن التركي إلى وطنه لأن “النظام العلماني التركي لم يكن يوما ما متصدعا مثل ما هو عليه اليوم”. هل فتح الله كولن، الذي يوحي في الصورة كما لو كان جدّا حنونا، أصولي متنكر؟ هل الرجل الذي يظهر من دون عمّة ولِحية عبقري في “التّقِية” الإسلامية، وهي المُداراة المقنّنة، أَمْ حكيم، أَمْ أرقى مسلم على وجه الأرض كما يقول أتباعه؟.
كولن….المد والتوسع
حتى وقت قريب لم يكن أحد يعرف مؤسس أكبر حركة إسلامية في تركيا سِوى الأتراك وبعض الخبراء في شئون الإسلام بالخارج. هذا إلى أن أظهر استفتاء أجرته كل من مجلتي “بروسبكت” البريطانية و”فورين بوليسي” الأمريكية حول أهم 100 مفكر على مستوى العالم، وكان فتح الله كولن على رأس القائمة في هذا الاستفتاء.
كيف لِفقيه مسلم من أبناء الشرق أن يطيح بفطاحل الغرب أمثال نعوم تشومسكي و آل جور وأمبيرتو ايكو ويروغن هابرماس إلى مؤخرة القائمة؟ ولكن سرعان ما ظهر تفسير هذا النجاح المفاجئ، فقد كان معظم الأصوات، الذين تعدّوا 500 ألف، من قرّاء جريدة “زمان” اليومية المقربة من كولن الذين دعتهم للمشاركة في هذا الاستطلاع. وكتبت “فورين بوليسي” أنه لم يكن مُقدّرا أن يحظى الاستفتاء بمثل هذا “الوابل من الأصوات” وأضافت أن “الشيء الفريد” في هذا الموضوع أنه يكشف “حجم تأثير الرجال والنساء الذين اخترناهم لقائمة الاستفتاء”. وعلى التو أصدرت “بروسبكت” مقالا توضيحيا بعنوان “عثماني معاصر” قالت فيه أن “الفائز في استطلاعنا هو وجه حديث لتقاليد الصوفية العثمانية”.
النشأة والتوجه
بدأت الظاهرة “كولن” بقرية مقفرة في مجاهل الأناضول تسمى كوروجك، لا يتعدى سكانها 600 نسمة، بيوتهم من الطوب اللبن والقش، وحياتهم بسيطة ومستقبلهم معتم. وهنا وُلد فتح الله عام 1941 (وحسب روايات أخرى عام 1938) وكان والده رامز كولن إمام القرية.
كان فتح الله شغوفا بالعلم منذ صغره، ويقال إنه بدأ في حفظ القرآن في سن الخامسة، وختم حفظه في العاشرة من عمره، ويتحدث العربية بطلاقة وألمّ بعلوم أشهر الفقهاء المسلمين. وقبل أن يتم الرابعة عشر من عمره بقليل ألقى أول خطبة جُمعة، والتحق بحلقات العلم لمشاهير الفقهاء في “تجويد القرآن”، وبدأ بدراسة “كليات رسائل النور” للصوفي المسلم سعيد نورسي.
في رسالة تسامح عالمية يؤكد كولن أن هناك مجالات واسعة للتعاون بين الإسلام وبين الأديان الأخرى
وقد حفزته رسائل سعيد نورسي – التي تعتبر ركيزة لمشروعه المنطقي العلمي لمواجهة تحديات الحداثة – على الاهتمام بالشريعة الإسلامية ودراستها بنظرة ناقدة، ما جعله يتخذ بسرعة موقفا خاصا به. وعلى الرغم من أنه يؤمن بأن المبادئ الإسلامية ثابتة لا تتغير كما أُنزلت في القرآن، إلا أنه على قناعة أنها لا بد أن تتكيف مع ظروف كل عصر وأن يتم تفسيرها من جديد لملائمة ذلك العصر. ويرى أن الأنظمة الحكومية لا بد أن تكون إطارا لذلك وأن تُحترم تصرفاتها. كما يرى أيضا أن توفر العلوم الحديثة السّبل لفهم الذات الإلهية بالعقل عن طريق البحث في المخلوقات.
بعد ذلك بقليل بدأ كولن في التجول خلال البلاد كخطيب، وفي الفترة التي كانت البلاد تعاني فيها من اضطرابات سياسية وانقلابات عسكرية دعا إلى الحوار وإلى السلام وأدان العنف والإرهاب، واستشهد في ذلك بكبار التصوف الإسلامي محي الدين ابن عربي ومولانا جلال الدين الرومي الذين “رسموا الطريق إلى المعرفة الحقة بالحب والروحانيات”.
وكثيرا ما كان كولن يجهش بالبكاء لعدة دقائق لدرجة أن هذه الظاهرة أصبحت من سِمات “المعلّم الوقور” كما يسميه أتباعه اليوم. هذه الشخصية الجذابة التي دائما ما تجذب جمهورا كبيرا إليها تدعو إلى المشاركة بدلا من التراجع. ويقول إن المجتمع لا يمكن أن يتغير إلا إذا تغير الفرد، والسبيل إلى ذلك هو العلم، وشعار كولن في ذلك هو: ابنوا مدارس جديدة بدلا من المساجد.
هل كولن مصلح حقيقي؟
كما أن العمل يعتبر مفتاح الشفرة بالنسبة لهذا الخطيب التي تتسم نصائحه بشيء من التسامح، ويقول عن ذلك في احدى كتبه عن “أركان الدين الإسلامي”: “سوف نُثَاب بالنجاح على جَلَدنا وصبرنا وسنعاقب على كَسلنا بقلّة ذات اليد”. في السنوات التالية تبعه جمع غفير من الطبقة المتوسطة الطموحة بالأناضول، لأن هذا “الكالڤينيّ المسلم”، كما يسميه معهد الأبحاث الأوروبي، يحث على ربط العبادة بكسب المال. لكن هذا الرجل المنتمي إلى قرية كوروجك يخطب أيضا حول دناءة إنكار وجود الله ونظرية التطور لداروين التي يرفضها بشدة. كما أن كتاباته لا تنكر وجود الملائكة والشياطين. وهذا ما يجعله لا يصل إلى درجة “المصلح المسلم” الذي يتلهف عليه الغرب، بحسب بكيم أغاي المتخصص في الدراسات الإسلامية. كما أن كولن ليس بصاحب نظرية لاهوتية خاصة أو حتى ثورية، ففهمه للإسلام لا يتعدى الاتجاه السائد للمحافظين.
تملك حركة فتح الله كولن إمبراطورية إعلامية تسهل عليها الوصول إلى الناس ونشر أفكارها
لا، إن كولن ليس حقا بمصلح بالمعنى اللاهوتي، حسبما يقول جمال اوشاك، وهو أحد المستشارين المقربين منه ونائب رئيس “مؤسسة الصحفيين والكتاب” باسطنبول، الذي يقول أيضا: “لكنه ديمقراطي ومحب للخير، وهذا هو الأهم”. وفي ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين أُقيم العديد من المؤسسات التعليمة المعترف بها من قِبل الحكومة والمدارس والجامعات ومساكن الطلبة ومنشئات للدروس الخصوصية بعدما استقال كولن من عمله الحكومي كخطيب. ومن ثم كرّس حياته كلية للحركة واكتسب بهذا احترام الشعب. ذلك لأن الأنشطة الاجتماعية التي يمولها المتبرعون أصابت ثغرة لم تستطع – أو لم ترد – الحكومة التركية سدّها، فقد كان المستوى التعليمي في الأقاليم وفي ضواحي المدن الكبيرة في الحضيض.
إن قيام الحركة إلى جانب ذلك بتأسيس جمعيات ذات اهتمام سياسي واقتصادي أدّى إلى سوء الظن بها. أضف إلى ذلك الامبراطوية الصحافية بما فيها من دار للنشر والمجلات ومحطة تلفاز وثاني أكبر جريدة يومية في تركيا المسماه “زمان”.
وعلى أبعد الفروض أصبح كولن في ثمانينيات القرن العشرين شخصية مشهورة. وعندما يخطب على حد قوله، نزولاً عند رغبة الجماهير، في جامع اسطنبول الشهير جامع السلطان أحمد، يكون بين الجماهير رئيس الوزراء الأسبق سليمان ديمريل ووزير خارجيته إحسان صبري ﻛﺎﻏﻼﻳﺎﻧﻐﻴﻞ. كما أن هذا الخطيب على صلة دائمة برئيس الجمهورية ورئيس الوزراء الأسبق تورجت أوزال. ومع ذلك كان على كولن أن يعي أن علاقاته السياسية القوية لن تحميه من الدخول في صراعات متعددة مع القانون، حيث كانت معظم تلك الصراعات تتعلق بـ”نشاطات معادية للعلمانية”، التي كانت ينتهي بإطلاق سراحه بسرعة.
انتقادات وشبهات
وفي عام 1994 قام بتأسيس “مؤسسة الصحفيين والكتاب” الذي أصبح رئيسا فخريا لها. وقد دأب على اللقاءات الصحفية في جميع الصحف المهمة، كما أنه يلتقي بالنخبة السياسية، منها على سبيل المثال السياسية تانسو شيلر، التي أسس معها 1996 بنك آسيا. وخلال رحلاته الخارجية تقابل مع البابا يوحنا الثاني ورئيس أساقفة نيويورك جون أوكونر. ومؤسساته في نمو مستمر، حيث تبنى معاهد وجامعات في الاتحاد السوفيتي سابقا وتركستان وأواسط آسيا وأيضا في أوروبا والولايات المتحدة. ولا يمكن التكهن بعددها.
ويستنكر الصحفي المشهور سلجوك جوتاشلي، الذي يكتب في صحيفة زمان، متسائلا: “كيف يمكن إحصاء ذلك؟”، ويتعجب من الضجة المثارة حول حركة كولن. ويتابع قائلا: “إننا لسنا بمنظمة يمكن للمرء أن يصبح عضوا فيها. إننا جماعة من الناس لهم نفس الهدف تقريبا”. لهذا فقد جانبت الصواب السيدة نجلاء كولك الألمانية التي تنتقد كولن عندما وصفت الحركة بـ”الطائفة الإسلامية الغامضة ذات الهيكل المؤسسي”. ويتابع جوتاشلي قائلا: “بإمكان كل مَن يتهمنا باتباع أجندة سرية أن يأتي ويستفسر، فنحن لا نخفي أي شيء”.
يرى فتح الله كولن أن كبار التصوف الإسلامي أمثال محيي الدين ابن عربي وجلال الدين الرومي من الذين “رسموا الطريق إلى المعرفة الحقة بالحب والروحانيات”.
وفي صفحة الويب التابعة لجمعية “كيمسة يوك مو” الخيرية يمكن معرفة الممولين الأساسيين للمشاريع الخيرية بما فيهم كولن نفسه. ومما يمكن قراءته على صفحة الويب الخاصة بكولن أن أغلبية مؤسسي بنك آسيا – البالغ عددهم ستة عشر وهم من أهم رجال الأعمال في تركيا – على علاقة وطيدة بشبكة كولن. كما أن تلاميذ “المعلّم الوقور” يستندون في نشاطهم إلى الشكل التنظيمي للجماعات الصوفية الدينية التي تعود إلى العصور الوسطى أيام الخلافة العثمانية.
هذه الطرق الصوفية عاشت في الفترة الكمالية دون أن تحصل على صفة قانونية. وقد التحق فتح الله كولن بطريقة الصوفي سعيد نورسي، تلك الطريقة التي تنوء بنفسها عن التيار الإسلامي المتشدد. كما أن كولن رحب بسقوط رئيس الوزراء الأسبق والأصولي نجم الدين أربكان عام 1997. وينصح بتوجه تركيا نحو أوروبا وليس نحو إيران أو السعودية.
وفي مارس / آذار 1999 سافر الخطيب كولن إلى الولايات المتحدة بشكل مفاجئ، وبعد ذلك بوقت قليل بثت إحدى محطات التلفاز التركي خطبة مصوّرة سريا يطالب فيها كولن أنصاره بـ”العمل في صبر والتسلل إلى مؤسسات الدولة للاستيلاء على الحكم”. وعلى التو قام المدعي العام بالمطالبة بسجن كولن عشر سنوات بتهمة “تكوين منظمة تعمل على إطاحة الحكومة العلمانية وبناء دولة تقوم على أسس ثيوقراطية”.
وقد وصف كولن تلك التسجيلات بـ”المفتعلة”، ورأى أتباعه أنها حملة تشويهية. وفي يونيو/تموز 2008، بعد مرور أعوام، تم تبرئته من كل التهم التي وجهت إليه. مع ذلك فهو لا يزال يقيم في منفاه بولاية بنسلفينيا في الولايات المتحدة “لأسباب صحية” على حد قوله. كما يؤكد أصدقاؤه عدم معرفتهم بموعد عودة “المعلم”. إلا أنهم يأملون بقرب هذا الموعد. ويقول إحسان كلكفان من بنك آسيا: “إذا لم أتمكن من رؤيته فسوف أعول باكيا كما لو كنت لا أستطيع لقاء المحبوب”.
وعلى النقيض من ذلك يأمل مسئول في شركة إعلامية يعقد العزم على الكفاح حتى تستطيع ابنته وصديقها الخروج إلى الشارع بيدا بيد، أن لا يعود كولن إلى تركيا قائلا: “لن يعود كما عاد الخميني إلى إيران، لكنه سيظل يحاول أسلمة تركيا”.
أَهي مخاوف مبالغ فيها أم هو حدس أكيد؟ وسيكون التغلب على شكوك خصومه من أهم واجبات كولن طيلة حياته.
دانيال ستينفورث(باحث ألماني)