عبد الله كنون...نبوغ العالم

الرئيسية » إبداع وتنمية » عبد الله كنون…نبوغ العالم

ينتمي العلامة الراحل عبد الله كنون إلى أرومة خاصة من العلماء المغاربة، فقد جمع في كف واحدة بين الأصالة والمعاصرة، أو بين التراث والعصر، وصاغ شخصيته العلمية على أساس من توظيف التراث في قراءة العصر الحديث بكل تحدياته، وتوظيف ثقافة العصر في إعادة فهم التراث الإسلامي، ومن هنا لا غرو أن الشيخ كنون يصطف إلى جانب علماء مغاربة أجلاء آلوا على أنفسهم خدمة الدين الإسلامي بما لا يكرس شعور المسلم المعاصر بالغربة الثقافية.

ولد الشيخ كنون بمدينة فاس عام 1908، وهي السنة التي ظهرت فكرة الدستور في المغرب خلال حكم المولى عبد الحفيظ عندما نشر أول دستور مغربي بجريدة”لسان المغرب”، التي أصبحت تلك الوثيقة تحمل اسمه منذ ذلك التاريخ”دستور لسان المغرب”، وربما سيكون ذلك واحدا من المؤثرات الثقافية التي رافقت الشيخ كنون حين كتب في بداية الستينات ـ مع طرح أول دستور على عهد الملك الراحل الحسن الثاني ـ مقالا عن حاجة المغرب إلى دستور وعن البعد الإسلامي فيه.

في عام 1914 رحلت أسرة كنون إلى مدينة طنجة التي أرادت أن تجعل منها محطة للسفر إلى الشرق، لكن ظروف الحرب العالمية الأولى حالت دون إكمال المسيرة، فاستقرت بمدينة البوغاز. وهناك أكمل الطفل عبد الله تعليمه. كانت المدرسة الأولى التي تلقى فيها العلم هي والده الشيخ عبد الصمد كنون، وهنا يقول الشيخ عبد الله في مذكراته”حفظت القرآن الكريم، وزاولت قراءة العلم على مشايخ عدة، وكان مجال دراستي ينحصر في علوم العربية والفقه والحديث والتفسير، وأما الأدب فقد كان تعاطيه هواية”. كما حفظ كنون الأحاديث النبوية والمتون القديمة، وشروحات النصوص اللغوية والنحوية وحواشيها الثانوية؛ فغدا، في فترة وجيزة، عالما بالشريعة وأركانها، وباللغة وأسرارها، ولم يبلغ بعد عقده الثاني.

وما أن انتصف عقد العشرينيات من عمره، حتى صار “عبد الله” ذا شهرة واسعة في المغرب والمشرق، وذلك بفضل كتاباته في صحف البلاد الإسلامية، وبفضل زياراته المتتابعة لبلدان المشرق. وقد سمحت له كتاباته وزياراته تلك بالتعرف على عدد كبير من علماء المشرق وأدبائه وإعلامييه، ليخوض معهم نقاشات فكرية وثقافية تتناول واقع الأمة وأحوالها وسبل إخراجها من الأزمات الاجتماعية والفكرية والسياسية والاقتصادية.

وابتداء من سنة 1936 اشتغل كنون بالتدريس، ثم أسس مدرسة”عبد الله كنون” الحرة، والمعهد الديني بطنجة، وفي عام 1937 عمل مديرا للمعهد الخليفي ثم أستاذا بالمعهد العالي وبكلية أصول الدين بتطوان، وبين سنتي 1954ـ1956شغل منصب وزير العدل في الحكومة الخليفية، ثم عين عاملا بطنجة سنة 1957 غير أنه قدم استقالته عام 1958، وفي عام 1961 أسس إلى جانب علماء مغاربة آخرين رابطة علماء المغرب التي لقيت دعما من الملك الراحل الحسن الثاني، وشكلت رافدا من روافد الإصلاح الديني في المغرب.  

أما من الناحية العلمية والصحافية فقد ترأس عبد الله كنون تحرير مجلة “لسان الدين”، ثم عمل مديرا لجريدة “الميثاق” التي كانت تصدرها الرابطة، كما ساهم في تحرير مجلة “الإحياء” التي كانت تصدرها نفس الهيئة، وحظي بعضوية مجموعة من الهيئات منها: المجمع العلمي بدمشق 1956 ، مجمع اللغة العربية بالقاهرة 1961 ، هيئة القدس العلمية 1973، مجمع اللغة الأردني 1978، المجمع العلمي العراقي 1979، أكاديمية المملكة المغربية 1980.

وقد ساهم كتابه”النبوغ المغربي في الأدب العربي” الذي أصدره في الثلاثينات في إشعاعه خارج المغرب، في وقت لم يكن الصوت المغربي معروفا في الأوساط الثقافية والأدبية والفكرية بالمشرق، إذ فاجأ الكتاب العديد من الأدباء والنقاد منهم طه حسين، نظرا للاعتقاد الذي كان شائعا بأن المغرب الأقصى ليس به أدب يستحق الاهتمام، لذلك نال الكتاب احتفاء واسعا به وأسمع أدب المغرب في الأقطار المشرقية، فقد كان الشيخ كنون يشعر بالحاجة إلى التعريف بالمغرب في المحافل الفكرية والأدبية والعلمية، فاستطاع أن ينقب في التراث المغربي لكي يستخرج مادة الكتاب ويثبت بأن المغاربة أعطوا أدبا يليق بمزاحمة أدب المشارقة بل يبزهم أحيانا.

كان الشيخ كنون يعرف أن هناك من يريد وضع فجوة بين المثقف العصري وما اصطلح عليه بالمثقف التقليدي، وذلك بهدف ضرب أحدهما بالآخر والقضاء على الثقافة المغربية التي هي ثقافة واحدة ذات مسار موحد في خط تطوري مستقيم، ولذلك لم يفتأ يخوض المعارك ضد بعض الأفكار المترسخة في هذا المضمار، محاولا أن يمد جسور التفاهم. وفي حوار مطول كانت مجلة”الكرمل”الفلسطينية قد أجرته معه عام 1985 ، قبل سنة واحدة من وفاته، يرجع إلى بداية هذا الانقسام المفتعل، حيث يقول:”لا زلنا نختلف حول المثقف التقليدي والعصر،. اختلاف النظر أو اختلاف الاتجاه ظهر منذ أول وهلة، مع التلاميذ الأولين لثانوية مولاي إدريس بفاس، لأنهم هم الزهور الأولى التي أعطت الثقافة العصرية، تليها ثانوية مولاي يوسف بالرباط. وأحسوا بهذا التخالف والتنافر بين الجانبين. منذ زمان، وقعت محاولات للتقريب فيما بين الجانبين، وتمت اجتماعات على هذا الأساس، للحوار، لإزالة الاختلاف، وفي إطار هذه الاجتماعات كانت حركة التمثيل في فاس. وفي إحداها قال علال الفاسي “كل صعب على الشباب يهون”، وهو يقارن في هذه القصيدة بين الشباب في عصره وفي غير عصره. وكانت النتيجة حسنة، بحيث مشى الركب جنبا لجنب في الحركة الوطنية، لكن الحركة الوطنية حركة سياسية، ثم إن هذه السياسة كانت ضد عدو مشترك ومعروف، والمقاومة كانت ضد العدو وضد العملاء. ذهبت القافلة متحدة. في هذه الأثناء كان جانب الثقافة العصرية يتسع ويمتد باستمرار، بإنشاء المدارس والثانويات وإرسال البعثات. وبعثاتنا كانت حرة، لم تكن مثيلة لبعثات الشرقيين، التي كان يصاحبها إمام، وملاحظ تربوي. كانت بعثاتنا حرة، ولم تكن تذهب على يد الدولة بل وحدها . مثلا بلحسن الوزاني سافر إلى فرنسا من تلقاء نفسه”.

ترك الشيخ كنون للمكتبة المغربية العديد من الأعمال، طبع بعضها في المغرب وبعضها الآخر في المشرق، إلى جانب مئات المقالات المبثوثة في الصحف والمجلات، ومن بين أعماله:

ـ النبوغ المغربي في الأدب العربي.

ـ شرح مقصورة المكودي.

   ـ أمراؤنا الشعراء

ـ مدخل إلى تاريخ المغرب

  ـ واحة الفكر

ـ تلقيب الوليد الصغير لعبد الحق الإشبيلي، تحقيق.

ـ شرح الشمقمقية.

  ـ رسائل سعدية

ـ ديوان ملك غرناطة يوسف الثالث، تحقيق.

ـ أدب الفقهاء.

وأعمال كثيرة أخرى يطول عدها. كما كان الشيخ كنون شاعرا مفلقا، وترك العديد من الدواوين الشعرية، من بينها: لوحات شعرية، التعاشيب، أزهار برية، وغيرها. وكتب القصة القصيرة أيضا، هذا إضافة إلى العديد من الكتب التي وضعها في التعريف ببعض الشخصيات التاريخية المغربية، في العلم والسياسة والدين والفلسفة.

إدريس الكنبوري

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *