الدراسات المستقبلية شغف العلم.. و .. إشكالات المنهج 3/4

الرئيسية » علم وحضارة » الدراسات المستقبلية شغف العلم.. و .. إشكالات المنهج 3/4

تنبؤ تقليدي أم أساليب حديثة؟

خلال النصف الأول من القرن العشرين الميلادي، وما قبله، شاعت العديد من الأساليب التي استخدمت للتنبؤ بالمستقبل، بغرض اتخاذ القرارات، ورغم أنها تدخل في العملية الإدارية الذهنية المعروفة بالتخطيط، ورغم أنها أصابت قدرًا من النجاح في مساعدة المخططين على التنبؤ بالمستقبل، واتخاذ قرارات رشيدة بصدده، إلا أنها عُدّت وسائل تقليدية للتنبؤ بالمستقبل، عند مقارنتها بالطرق والتقنيات الحديثة في هذا المجال. ومن الأساليب التقليدية للتنبؤ بالمستقبل ما يلي(1):

      1. أسلوب التنبؤ عن طريق التخمين الذكي؛ ويعتمد هذا الأسلوب على الطريقة الحدسية التي يستخدمها الفرد في تقدير بعض جوانب المستقبل. لكن مثل هذه التنبؤات قد يصادفها الفشل أكثر من النجاح.
      2. أسلوب استقراء الاتجاهات؛ ويعتمد هذا الأسلوب على أن الاتجاهات التي ثبتت في التاريخ القريب سوف تستمر في المستقبل، ويفترض هذا الأسلوب أن القوى التي كانت توثر في تشكيل الاتجاه في الماضي سوف يستمر تأثيرها في المستقبل، وتظهر نقطة الضعف في هذا الأسلوب في انه يفترض أن القوى التي كانت تؤثر في الماضي سوف يستمر تأثيرها في المستقبل بنفس الدرجة، وللتغلب على نقطة الضعف السابقة أمكن عن طريق الطرق الإحصائية ابتكار أساليب فنية جديدة لاستقراء الاتجاهات بكفاءة عالية.
      3. أسلوب الإسقاطات؛ وغالبا ما تعتمد طرق الإسقاط على استقراء الاتجاهات الماضية. إلاّ أن طرق الإسقاط قد تعتمد في كثير من الأحيان على نموذج قياس يضم عددًا من العلاقات، من أهمها:أسلوب المحاكاة أو المماثلة؛ ويعتبر هذا الأسلوب امتدادًا لأسلوب الإسقاط المبني على توافر النموذج ولكنّه يتميز بجانبين:
        • السلوكي؛ وهو الذي يعكس السلوك المتوقع، وغالبًا ما يؤخذ السلوك الرشيد كأساس لتحديد العلاقات.
        • التعريفي؛ وهو الذي يعبر عن علاقات توازنية معينة بين المتغيرات.
        • الفني؛ وهو الذي يعكس العلاقة بين المدخلات والمخرجات المختلفة المتوقعة في نظام ما.
      4. أسلوب المحاكاة أو المماثلة؛ ويعتبر هذا الأسلوب امتدادًا لأسلوب الإسقاط المبني على توافر النموذج ولكنّه يتميز بجانبين:

        أ- أن العلاقات التي تعتمد عليها متعددة، تقبل إضافة عدد كبير من العوامل ذات التأثير الهام في عملية التنبؤ.

        ب- إمكانية إدخال أسلوب التحليل الاجتماعي في التنبؤ المستقبلي.

      5. أسلوب التعرف على المستحدثات؛ يقوم هذا الأسلوب على التعرف على المستحدثات الممكن توقعها، ومن المفروض أن المستحدثات الكبرى سيترتب عليها حدوث تغيرات لا يمكن توقعها من خلال الأسلوب الإسقاطي
      6. أسلوب تحديد مجالات الانتشار؛ ويقوم هذا الأسلوب على فكرة أساسية قوامها أن التغيرات الاجتماعية الرئيسية إنّما تنجم عن الانتشار الواسع للتكنولوجيا والامتيازات القائمة وليست من المستحدثات الكبرى الجديدة، ويعني هذا الأسلوب أن ما كان في يوم احتكارًا لقلة يصبح متاحًا للكثير، مما يترتب علية تغيرات واسعة في المجتمع.

ولكن الدراسات المستقبلية في مناهجها وتقنياتها الحديثة تختلف عن أساليب التنبؤ التقليدي؛ ويمكن التفرقة بينهما في أربع نقاط رئيسية هي:

      1. المدى الزمني: حيث تتعامل الدراسات المستقبلية مع مدى زمني أطول من ذلك الذي يتناوله التنبؤ التقليدي.
      2. معدلات التغير: حيث تتعامل الدراسات المستقبلية مع درجات من التغير أعلى من تلك التي يعتمد عليها التنبؤ التقليدي.
      3. البدائل: حيث تتعامل الدراسات المستقبلية مع بدائل مختلفة للموضوع محل البحث، نتيجة لعدم القدرة على معرفة التغيرات في الأجل الطويل.
      4. أساليب التحليل: حيث تستخدم الدراسات المستقبلية أساليب للتحليل الكمي والكيفي، بينما يعتمد التنبؤ التقليدي على أساليب كمية فقط.

وتسود اليوم أساليب مستحدثة للتنبؤ بالمستقبل وتصميم الدراسات المستقبلية، ومن أساليب الدراسات المستقبلية الحديثة؛ الأساليب التالية(2):

      1. أسلوب السلاسل الزمنية، Time Series Methods وهي من الطرق التي لا تقوم على نماذج سببية Causal، تعبر عن سلوك المتغير أو المتغيرات موضع الاهتمام وفق نظرية ما، وإنما تشمل طرقًا ونماذج تتفاوت من حيث التعقيد وكم المعلومات المسبقة المطلوب.ومنها نموذج الخطوة العشوائية Random Walk Model الذي يفترض قيمة المتغير في فترة ما هي قيمته التي تحققت في فترة سابقة.
        (ولذا يطلق عليه نموذج عدم التغير). ومنها طرق إسقاط الاتجاه العام Trend Extrapolation بالمتوسطات المتحركة وتحليل الانحدار. ومنها أساليب تفكيك السلاسل الزمنية للتنبؤ بالتغيرات الموسمية. ومنها طرق التمهيد الأسي للسلاسل الزمنية، والطرق المعتمدة على النماذج الإحصائية للسلاسل الزمنية.
      2. أسلوب الإسقاطات السكانية؛ ومن أشهرها ما يعرف بطريقة الأفواج والمكونات Cohort-Component Method، حيث يتم حساب النمو في عدد السكان من مكونات محددة كالمواليد والوفيات والهجرة إلى الدولة والهجرة من الدولة، وحيث يمكن التنبؤ بعدد السكان في كل فوج أو شريحة عمرية – جنسية استنادًا إلى معدلات الخصوبة ومعدلات البقاء على قيد الحياة حسب العمر والجنس.
      3. أسلوب النماذج السببية Causal Models؛ وهنا يتم التنبؤ بقيم متغير ما أو مجموعة متغيرات باستعمال نموذج يحدد سلوك المتغيرات المختلفة استنادًا إلى نظرية معينة. ومن أشهر هذه النماذج نماذج الاقتصاد القياسي Econometric Models، ونماذج المدخلات والمخرجات Input-Output Models، ونماذج البرمجة Programming Models أو الأمثلية Optimization، ونماذج المحاكاة Simulation Models، ونماذج ديناميات الأنساق Systems Dynamics (التي تعد دراسة «حدود النمو» لنادي روما من أشهر تطبيقاتها).
      4. أسلوب الألعاب أو المباريات Gaming؛ وهي طريقة تعتمد على المحاكاة ليس فقط من خلال الباحث في الدراسات المستقبلية، بل وكذلك بإشراك الناس فيها كلاعبين يقومون بأدوار Role Playing يتخذون فيها قرارات أو تصرفات، ويستجيبون لقرارات وتصرفات غيرهم، ويبدون رد فعلهم إزاء أحداث معينة. ويتم استخراج الصور المستقبلية البديلة باستعمال نماذج لفظية أو رياضية أو كمبيوترية أو محاكيات فعلية.
      5. أسلوب تحليل الآثار المقطعية Cross Impact Analysis؛ وهو أسلوب لفهم ديناميكية نسق ما، والكشف عن القوى الرئيسية المحركة له. كما أنه أسلوب لفرز التنبؤات الكثيرة والخروج منها بعدد محدود من التنبؤات، وذلك بمراعاة أن احتمال وقوع بعض الأحداث يتوقف على احتمال وقوع أحداث أخرى. أي أنها طريقة لأخذ الترابطات وعلاقات الاعتماد المتبادل بين الظواهر أو المتغيرات أو التنبؤات في الحسبان.
      6. الأساليب التشاركية Participatory Methods؛ ويقصد بها طرق البحث المستقبلي التي تتيح المجال لمشاركة القوى الفاعلة أو الأطراف المتأثرة بحدث ما في عملية تصميم البحث وجمع المعلومات اللازمة له وتحليلها واستخراج توصيات بفعل اجتماعي معين بناء على نتائجها. وهذه الطرق أكثر استعمالًا من الناشطين في مجال المستقبليات، أي من يقومون بالدراسات المستقبلية ذات التوجه الاستهدافي والتي يرتبط فيها الاستهداف بممارسات عملية للترويج والتعبئة والتحريض على اتخاذ فعل اجتماعي يساعد على تحقيق صورة مستقبلية مرغوب فيها أو على منع حدوث صورة أو صور مستقبلية غير مرغوب فيها. ومن أمثلة هذه الطرق التشاركية في البحث المستقبلي طريقة الممارسة المستقبلية بالمشاركة Participatory Future Praxis، وطريقة البحث التشاركي الموجه للفعل الاجتماعي Participatory Action Research، وطريقة ورش عمل المستقبليات Futures Workshops، وطرق إجراء التجارب الاجتماعية Social Experiments، والبحوث المستقبلية الاثنوجرافية Ethnographic Futures Research التي تركز على استطلاع المستقبلات الثقافية – الاجتماعية من خلال مقابلات مطولة ومفصلة ومتكررة مع مجموعة من الأفراد المشتغلين بظاهرة ما (كالبحث والتطوير التكنولوجي) أو الذين يحتمل تأثرهم بحدث ما.
      7. أساليب التنبؤ من خلال التناظر والإسقاط بالقرينة؛ وتقوم أساليب التناظر أو المشابهة Method Of Analogy على استخراج بعض جوانب الصور المستقبلية استنادًا إلى أحداث أو سوابق تاريخية معينة والقياس على ما فعلته دول معينة في مرحلة أو أخرى من مراحل تطورها لإنجاز معدل ما للنمو الاقتصادي مثلًا. أما أساليب الإسقاط بالقرينة، فهي تقوم على افتراض أن ثمة ارتباط زمني بين حدثين، حيث يقع أحدهما قبل الآخر عادة، بحيث يمكن التنبؤ بالحدث اللاحق استنادًا إلى الحدث السابق. فمثلاً يمكن أن يؤخذ التقدم في الطائرات الحربية من حيث السرعة قرينة على التقدم في سرعة الطائرات المدنية. ومن أشهر هذه الطرق طريقة السلاسل الزمنية القائدة Leading Series التي كثيرًا ما استخدمت في التنبؤ بالدورات الاقتصادية، حيث يؤخذ بطء النمو في متغيرات اقتصادية معينة (كالمخزون أو التعاقدات الجديدة) قرينة على إبطاء حركة النشاط الاقتصادي في مجموعه.
      8. أساليب تتبع الظواهر وتحليل المضمون؛ ويقصد بطريقة تتبع الظواهر Monitoring استخدام طائفة متنوعة من مصادر المعلومات في التعرف على الاتجاهات العامة لمتغيرات معينة، مع افتراض أن الاتجاهات العامة التي يتم الكشف عنها هي التي ستسود في المستقبل. وقد استخدم هذه الطريقة الباحث المستقبلي المشهور Naisbitt في التوصل إلى ما أطلق عليه الاتجاهات العامة الكبرى Megatrends. أما طريقة تحليل المضمون Content Analysis فهي تركز على تحليل مضمون الرسائل Messages التي تحملها الصحف والمجلات والبحوث والكتب وما يذاع في الإذاعة والتليفزيون وغيرها، وتسجيل مدى تكرر عبارات أو كلمات تحمل قيمًا أو توجهات معينة، وبناء استنتاجات مستقبلية على تحليل هذه التكرارات.
      9. أسلوب تحليل آراء ذوي الشأن والخبرة؛ ومن هذه الأساليب طريقة المسوح Surveys التي يتم فيها استطلاع رأي أو توقعات عينة من الأفراد سواء من خلال استبيان يرسل بالبريد أو يتم تعبئته عن طريق المقابلة الشخصية أو الاتصال الهاتفي. ومنها طريقة ندوة الخبراء Panel Discussion وطريقة الاستثارة الفكرية أو القدح الذهني Brain Storming، وطريقة دلفاي Delphi Method التي يتم فيها استطلاع الآراء والتحاور بشأنها، مرة واحدة كما في ندوة الخبراء والاستثارة الفكرية أو عدة مرات كما في طريقة دلفاي.
      10. أسلوب السيناريوهات Scenarios؛ والسيناريو وصف لوضع مستقبلي ممكن أو محتمل أو مرغوب فيه، مع توضيح لملامح المسار أو المسارات التي يمكن أن تؤدي إلى هذا الوضع المستقبلي، وذلك انطلاقًا من الوضع الراهن أو من وضع ابتدائي مفترض. والأصل أن تنتهي كل الدراسات المستقبلية إلى سيناريوهات، أي إلى مسارات وصور مستقبلية بديلة. فهذا هو المنتج النهائي لكل طرق البحث المستقبلي. ولهذا فإن بعض المستقبليين يعتبرون السيناريو الأداة التي تعطي للدراسات المستقبلية نوعًا من الوحدة المنهجية Methodological Unity، وذلك بالرغم من أن الطرق التي قد تستخدم في إنتاج السيناريوهات تتنوع تنوعًا شديدًا. فالسيناريوهات يمكن أن تبنى بأي من الطرق السابق ذكرها أو بمجموعات معينة منها. كما أنها يمكن أن تبنى بطرق أخرى لم تتعرض لها كالسيناريوهات التي تعتمد اعتمادًا كليًا على الخيال العلمي أو الإبداع الأدبي أو الحدس أو الاستبصار Foresightوالتي قد ينفرد بكتابتها شخص واحد – لا فريق من الباحثين العلميين.

الهوامش:

      1. النوري، عبد الغني. اتجاهات جديدة في التخطيط التربوي للبلاد العربية. الدوحة: دار الثقافة. د. ت.، ص 87
      2. العيسوي، سابق، ص17-20.

محمد فالح الجهني / مجلة المعرفة: العدد 175

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *