وآية ذلك أنّ الله عز وجل يبين في سورة القمر وفي سورة مريم أنّ هذا القرآن جاء ميسرا: “ولقد يسّرنا القرءان للذكر فهل من مدّكر“ [القمر، 17-22-32-40] أربع مرات في سورة القمر، ثم في سورة مريم، “إنّما يسرناه بلسانك” [الآية 97]، وهو تيسير مرتبط بالتدبر، ومرتبط بالنظر المستأنف في الوحي من أجل إنتاج مجموعة من العلوم يمكن أن نصطلح على تسميتها “علوم التيسير”.
وبموازاة مع ذلك فالكون فيه ميكانيزمات وآليات أخرى؛ فهو الكتاب المنظور، الذي سُخّر في مقابل تيسير القرآن الكتاب المسطور “وسخَّر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه“ [الجاثية، 13]. والإنسان انطلاقا من حواره مع الكون يكتشف علوما يمكن أن نصطلح على تسميتها بعلوم التسخير، وفي مجالات التيسير كما في مجالات التسخير(1). ينطلق الإنسان في إدراكه وتأسيس معارفه من هبة إلهية استثنائية فريدة: المواءمة ! أي أنه قد خُلق موائما للوحي، وموائما للكون. ولولا هذه المواءمة لما استطاع أن يتعقَّل الكون من حوله فيسخره انطلاقا من التفكر، ولما كان قادرا على التعامل مع الوحي وبنائيته ليستطيع بذلك أن ييسره انطلاقا من التدبّر.
وهنا تبرز ظاهرة حريّة بالتتبع والرصد، ومفادها أنه بعد إحكام الكتاب الخاتم، وجعله بناءً وترتيلاً، حدثت ثورة في مجالات علوم التيسير، ونشأت علوم.. فإنْ نحن تتبّعنا مثلا ما قام به الصحابة الكرام رضي الله عنهم والتابعون وأتباع التابعين فسوف نجد أن التعارك والتفارك والتشاحذ كان سمة من سمات البحث في مجالات التيسير البارزة.
فقد كان الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه يعجبه ارتفاع أصوات محمد بن الحسن الشيباني وأبي يوسف وزُفر حين يتحمسون أثناء تباحث المسائل والقضايا، ويُسَرُّ بذلك، وكذا الإمام مالك بن أنس، وهذا الإمام الشافعي يقرأ القرآن الكريم المرة تلو المرة أثناء بحثه عن دليل للقياس حتى يستقرّ رأيه على قوله تعالى: “فاعتبروا يا أولي الأبصار” [الحشر 2] وكذا أثناء بحثه عن دليل للإجماع، وإن نحن قرأنا كتابه الرسالة فسوف نرى نماذج من الحوار الحي والنابض مع القرآن المجيد.
كما نجد أنّ العلماء الذين تلوا قد زادوا وأضافوا وشحذوا آراءَ هؤلاء الأئمة الأعلام وغيرهم ممن نذكر في هذا المقام، إلى أن أتت علينا أحيان من الدهر أصابت فيها هذه الدينامية أضرب من الجمود تخللتها طفرات؛ مثل طفرة العزّ بن عبد السلام (ت 660هـ) في “الإحكام في مصالح الأنام” أو طفرة ابن تيمية (ت728هـ) وتلميذه ابن القيم (ت 751هـ) أو طفرة الشاطبي (ت790هـ)، وبعد ذلك آخرين مباركين. لكنّها تبقى طفرات ! إذ لم يبق البحث بنفس العرامة والاستمرارية التي كان عليها، بيد أنه استمر في مجالات التسخير إلى درجة أنّك اليوم إنْ أنت ذهبت إلى طبيب تريد الاستشفاء وأخرج لك كتاب “الحاوي في الطب” للرازي، أو كتاب “القانون” لابن سينا ليداويك بمقتضياتها فإنّك سترفض لوعيك أن نقلات نافعة ومقدّرة قد حدثت في هذه العلوم، وهنا وجب التنبيه على أمر هام، وهو أنّ ثمة ثوابت، وأنّ هذه الثوابت قامت عليها الأدلة ومن ثم فهي أجزاء لا تتجزأ من علوم الوحي ومعارفه فهي الأسس التي تحمل البناء كله، ومن ثم فهي لا تدخل في هذا الصدد إلا من حيث وجوب بذل المزيد من الجهد لاستبانتها وفقهها، غير أن هناك في هذه المعارف أقضية ومسائل كثيرة قابلة للاجتهاد والنظر وجب طبعا أن تُقدّر بقدرها؛ في استحضار لقوله تعالى: “ولا تَقفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كلّ أولئك كان عنه مسئولا“ [الإسراء، 36].