الفعل والانفعال

الرئيسية » الأعمدة » حروف » الفعل والانفعال

لم يكن التاريخ الإنساني إلا مجموعة أخبار وأحداث، دونها المؤرخون، وسجلها الإخباريون ، واختلفت وسائل تناقلها وحفظها، بين الذاكرة والرواية الشفوية، والرسم والرقم، والكتابة على  الجدران وسعاف النخل والجلود ثم الورق.

لا يربط بين هذه الأخبار والحوادث جميعا إلا الإنسان الذي كان مركز حركيتها وتغيرها وتبدلها، سواء تعلقت بالحرب أو السلم، أو المجاعات والزلازل، أو الرفاه والعمران، وغير ذلك من سائر التقلبات والإنجازات التي يمكن اعتبار الفعل الإنساني أصل ولادتها وظهورها ووجودها.

إن الحضارات التي خلدت اسمها في سجل التاريخ، كانت فعلا منبنيا على الإرادة والتصميم والتخطيط للحضور في التاريخ، بل تغيير مساره وبوصلة وجهاته، فقد تختلف وسائل ومناهج تحقيق هذا الحلم/الرؤيا، غير أنها تدل دلالة واضحة على أن عقولا وقلوبا مفعمةٌُ بالطموح والرغبة في امتلاك لحظات التاريخ الهاربة والمنفلتة من بين يدي الأعمار القصيرة والأنفاس المعدودة، فسعت إلى تخليد ذكرها بشتى الوسائل المعروفة في تاريخ الحضارات، من نظم وتشريعات، وعمارة وعمران، ما زال حاضرنا يستحضرها في تجاربه واعتباراته.

لم يكن صناع الحضارات بالمنفعلين الذين تثير عواطفَهم صروفُ الزمان، لتُهيج مكامنهم، وتتقلص لديهم مساحات التعقل الشاسعة، لتصير نقطة غير ذات معنى، وسط صخب الاندفاع الذي لا يقود إلا إلى الكوارث.

إن الفعل ينبع دوما من الوعي والمسؤولية التي تقدر مآلات الفعل وآثاره القريبة والبعيدة، وتفحص نواياه ومقاصده بحسن ظن وحزم ، وتبحث في مصادره وموارده بروية واتزان ، ليتحقق الإنجاز الذي تواكبه بالتقييم والتقويم. ومن ثم تتغلب مثل هذه الأفعال النابعة من التعقل والتشاور على شناعات التسرع المتولد من غريزة الغضب التي أوصى نبينا الأكرم صلى الله عليه وسلم بأخذ الحذر منها واتقائها، فإنها رأس كل مفسدة، فكانت حضارة دين الإسلام قائمة على الفعل المؤطر بمنظومة قيم أخلاقية،  تحكمها مقاصد حفظ الحياة الإنسانية في مختلف تجلياتها، فكان ماكان من إنجاز حضاري نفخر به، ولكن في إطار الاستئناف الناهض والعاقل والناقد ، وليس التفنن في ألوان البكاء على طلله، أو التغني بأمجاده ، وكأن التاريخ توقف ،فترسخت بذلك ثقافة العجز والمظلومية، وعقدة تحميل مسؤولية الفشل للغير الذي يبدو دائما في صورة المتآمر أو المتخاذل، مما يذكي جذوة الانفعالات، فتخبو معه سطوة الأفعال.   

لم يكن الإنجاز الحضاري أبدا بالمهمة السهلة، ولم يجد أهله ورواده من بناة مستقبل الإنسان طريقه سهلا مذللا، بل عانوا ولاقوا من صنوف الأهوال ما لا يثبت عنده إلا المؤمنون بقضاياهم، فكانت أفعالهم منزهة عن عبث الانفعال والغضب ورد الفعل، وغير ذلك من الاستثارات والمثيرات التي لا تترك في التاريخ إلا الغبار الذي لا يستقر على شيء، بخلاف الأفعال ،التي وإن عاقتها عوارض فإنها تبقى لبنة يمكن مراكمة تجارب جديدة بالانطلاق منها أو تجازوها، فالأساسي أنها نقطة ضوء لامعة وهادية في بحر الحياة المدلهم، وليس نقطة غبار تزيد العين عمى وتفقد القدرة على الإبصار.

إن العقول والقلوب في حاجة إلى هندسة تربوية وإعلامية، تسلك بالفرد والمجتمع من ضيق الانفعال والتسرع في الأحكام والمواقف والمبادرات، إلى سعة الفعل والتعقل وجميل الإنجازات.

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *