التراث و التراب المغربي

الرئيسية » إعلام ورقميات » التراث و التراب المغربي

جمعية الصداقة الفلسطينية المغربية

في معرکة التحدي ورد الفعل رکز «الفكر المغربي» اهتماماته الضخمة علی ماضي المغرب وأمجاده، وعلی التراب المغربی ووحدته، واحتضن التراث‏ والتراب وأشاد وتغنی الكتاب بهما ردا علی الدعوات الباطلة التی أثارتها دعوات التغریب و الفرنسة الفكرية، وصیحات الازدراء والسخریة التي‏ وجهت إلی «التاریخ» والأرض»المغربية».

وقد برز من أجل هذا فی کل قطر من أقطار المغرب دعاء أقرب ما یكون‏ إلى الأدب القومي الإقلیمي المحض، غیر أنه لم یكن إقلیمیا بالصورة التی‏ تتنكر لعروبة المغرب، أو لوحدته، أو للوحدة الكبرى، أو للثقافة العربیة الإسلامية. وإنما كانت هذه الإشادة بالأمجاد الإقليمية «ضرورة» من‏ ضرورات الدفاع عن الحریة، والدعوة إلى التحرر من أغلال الفرنسة وتجرید المغرب من مقوماته ومحاولة إدماجه في قومیة أخری غیر قومیته. وإذا كانت تونس دائما تذكر القرویین، کما یذكر المغرب الزیتونة، كانت‏ الأقطار المجزأة اسمیا تتلاقی في آلامها وأحداثها، ولا تتخاصم أو تتناكر لوحدتها الشاملة.

ولقد جرت الدعوة إلى كتابة الأدب القومي: «أدب المغرب الغني‏ بمناظر الطبیعیة الخلابة، وهذه ودیانه وخلجانه وهضابه وسهوله وجباله‏ وغاباته، وقد كسته الطبیعة وحبته بجمالها الفاتن الذی یلهم من الصور البیانیة والأخيلة الشعریة ما تعجز عن التعبیر عنه ریشة أمهر المصورین، وما لو استلهمه أدباؤنا لجاءوا بالمرقص المطرب، والمعجز المفحم، الذي‏ یسمو بهم إلی مرتبة الخلود..».(1)

وتبدو صورة الحب للتراب المغربی فی مناجاة علي مصطفی المصراتي‏ لطرابلس: «طرابلس الغرب اسم حلو عذب، سمعته لأول مرة من أمي‏ وأبي وهما یقصان علی مسامعي تاریخ هذا البلد، وقصص البطولة فیه، وأدوار الجهاد الوطني لأبنائه، وكانا مشردین مهاجرین فرا من اضطهاد الاستعمار الظالم مع آلاف المهاجرین وقوافل القادمین علی الإبل والأقدام‏ قاطعین الصحراء اللافحة، تاركین وطنا مغصوبا قادمین إلی أرض مصر الحبیبة قبلة الأحرار».

وتحس دائما من کتاب المغرب اعتزازا به، فهو عند (عبد الله کنون) المغرب الذی فتح الأندلس، ورکز رایة العروبة فی أرضها، وحماها وذاد عنها مدی القرون الثمانیة التی خفق علمه علیها، وأسس أکبر دولة عرفها شمال أفریقیا، إذ كانت تمتد ما بین حدود مصر الغربیة إلی جنوب أوربا، وامتازت حضارته بما تحتفظ به من عناصر عربیة أصیلة، فإنها وإن كانت‏ بحكم نشأتها علی الصعید الإفريقي وحول البحر الأبیض المتوسط، لا تخلو من بذور تكوین أولیة ترجع إلی هذه البیئة الخاصة، إلا أن تأثرها بحضارة دمشق أیام حكم الولاة كان أقوی، وزادها التفاعل مع حضارة قرطبة أیام‏ حكم المروانیین، فاصطبغت بالصبغة العربیة التی لم تزایلها بعد، ولئن‏ بقیت إلی عهد المرابطین آخذة ومعطیة فإنها في عهدي الموحدین والمرینيین، كانت صاحبة الید العلیا فی الأندلس التي تنطق آثارها المتخلفة عن هذین‏ العهدین بأنها ولیدة العظمة الموحدیة والعبقریة المرینیة، وعلی ذلك فإنه‏ حین كانت موجات دول الممالیك التركیة تتدفق علی مشرق البلاد العربیة كان مغربها یتمخض عن دول عربیة حسنة الرعایة للتراث العربي‏ والحفاظ علیه.

ویجری تمجید «تونس» علی لسان الحبیب بورقیبة، فهي التی‏ تطل من شرفتها المغربیة علی أوربا وعلی الشرق، وسواحلها تستقبل الرجال‏ والآراء المتواردة من الشاطئین، وهي مرتفع ینتصب حاجزا وسط البحر عندما تعصف فیه عواطف یثیرها البشر، هذه المكانة الجغرافیة الاستثنائیة هي بلا شك التي حبت تونس بشخصیتها القویة ورسمت لها مصیرها،  فهي أداة وصل، وفی إمكانها أن تقوم سدا بین العالم الشرقي والعالم الغربي.

وتربة تونس مثقلة بدماء المعارك التي دارت فوقها عبر التاریخ، وقد تجابه فیها أول الأمر الغرب اللاتیني أو الجرماني مع الشرق الفینیقي أو الإسلامي قبل أن یمتزجا.

وعنی الكتاب ببحث كلمة (المغرب). فیری عبد الوهاب منصور أن الأجداد أطلقوها علی ما یقابل المشرق فی عرفهم، وإن كانوا لم یحددوا حدوده الشرقیة بدقة، فهو عند فریق منهم یبتدی‏ء من الضفة الغربیة لوادي‏ النیل وعند فریق ثان من عقبة السلوم، وعند فریق ثالث من خلیج سرت، – حد اقلیمی برقیة وطرابلس-.

وقد یتوسعون في هذا الإطلاق قلیلا، فیجعلون كلمة المغرب شاملة لكل الأراضي الواقعة بالحوض الجنوبي للبحر الأبیض المتوسط، کالأندلس والجزائر الشرقیة (البالیار) وجزائر صقلیة وسردینیا وقرسقة، کما یجعلون كلمة مغاربة شاملة لسكان هذه الأقطار جمیعا فإذا أطلقت غیر مضافة ولا موصوفة، فهي الأراضي التی یتكون منها القسم العربي لشمال‏ أفریقیا فقط.

وقد أطلق الجغرافیون علی هذه الأراضي أسماه كثیرة من فجر التاریخ‏ إلى أیامنا، مثل لیبیا  وأفریقیا الصغرى، والسلسلة الأطلنطية، والبربریة، وبلاد البربر، ودعته الهیئات القومیة بالمغرب العربي.

ویری عبد الكریم غلاب أنه لا بد من الإیمان بأن همة أهل المغرب قد صنعت منه محطة استقبال و إرسال، وجعلت منه مرکز الثقل للحضارة المتجهة نحو الأندلس وحمایة هذه الحضارة من فكرة الاسترجاع التی ظلت‏ تراود الإسبانیین ثمانیة قرون، وقد كان دور المغرب هاما فی تحمل حمایة الفردوس المفقود أربعة قرون أو تزید.

و یقول: نقلنا من حضارة الرومان کل ما لا یدخل فی باب الاستعمار ونقلنا علوم الیونان عن طریق العرب، ونقلنا حضارة العرب ودینهم ولغتهم‏ وأدبهم، وساهمنا فی كل وسائل الحضارة، ثم رحلنا بحضارتنا هذه‏ مجتازین، مضیق الحوض إلى الأندلس وجنوب فرنسا، وحمینا هذه‏ الحضارة ما یقرب من ثمانیة قرون، مؤثرین ومتأثرین، ودعمنا أسس‏ هذه الحضارة فی المغرب العربی: في الجزائر وتونس ولیبیا، وانتقلنا بحضارتنا ودیننا ولغتنا إلى الجنوب، إلى السنغال والسودان، وکل‏ الحملات التی وجهت لبلادنا باءت بالفشل حتى كان تأخرنا الحضاري‏ سببا فی تخلصنا من وسائل المقاومة المادیة، عند ذلك قهرنا وما خضعنا، ثم بدأنا نقاوم حتى تخلصنا من الاستعمار.

ولم یر إعجاب وتقدیر واعتزاز کاعتزاز المغرب بأعلامه ومؤسساته، فتونس أحد معاقل العالم الإسلامي الثلاثة (الزیتونة) أنجبت ابن خلدون‏ وابن رشیق وابن شرف وسحنون وأسد بن الفرات.

والمغرب، یفخر بابن تومرت الذی سجل (وحدة المغرب)، وبالقرویین حیث محمد الایراري یدرس أصول الموسیقی لطلاب من كافة أنحاء العالم فی أواخر القرن الثالث عشر، ومحمد بن سلیمان مخترع كرة الدوائر الفلكیة المشهورة، وعبد الله الیفرني.

ولقد حظي ابن خلدون بجاه عریض، وکتبت عنه مئات الأبحاث: هذا العلامة مؤسس علم الاجتماع الذي یمثل وحدة المغرب أصدق تمثیل، انتقل من بلاط تونس إلى بلاط فاس، ومن اشبیلیة إلى بجایة، ومن‏ تلمسان إلى غرناطة، ولكنه لم یفرض نظریته فی الحیاة السیاسیة واكتفی بأن‏ دونها، وهو یمثل أبرز خصائص الفكر فی الشمال الإفریقي: فكرة الشمول.

والمغرب العربي هو الذي أثر فی العالم الجدید منذ القرن السادس عشر حیث دخلت الحضارة العربیة أمریكا الجنوبیة بواسطة الغزاة البرتغالیین‏ الذین اکتسحوا ذلك العالم الجدید، فقد نقلت البرازیل، خلال ثلاثة قرون‏ متوالیة، تأثیر المدنیة الأندلسیة فاتسمت جمیع مظاهر الحیاة الاجتماعیة الأمریكیة بطابع مغربي ینمو ویضعف حسب الأصقاع.

والمغرب هو الذي فرض نفوذه علی البحر الأبیض المتوسط الذی كان‏ رومانیا فأصبح طوال العصور الوسطی بحرا عربیا بجزره وسواحله.

ولا ینسی الفكر المغربي أن یشید بفضله علی الثقافة العربیة الإسلامیة، فمنذ وقت بعید أخذت الثقافة المغربیة الإسلامیة طابعا خاصا متمیزا عن‏ طابع المشرق في الخط المغربي، فكان هناك قلم مغربي خاص، وفي الفن‏ الإسلامي طابع خاص، وفي الثقافة الدینیة المالكیة، وفي الناحیة الفكریة ذات النزعة السلفیة، ومدرسة القیروان ومدرسة فاس.

كما لا ینسی أهل تونس أن یفخروا بماضیهم الفینیقي والقرطاجني.

أما الأندلس فإن الفخر به عظیم، وهو لا ینسی أبدا، هذا التاریخ‏ وهذا المجد.

ویقاوم الفكر المغربي محاولة الفصل بین حلقات ماضیة، فهي قبل‏ الإسلام وبعده حلقات من أمجاده، لذلك لا یرضی عن الغربیین حین یحاولون‏ الربط بین الفترة اللاتینیة السابقة للإسلام، وفترة النفوذ الفرنسي بعد 1830 مهملین ثلاثة عشر قرنا من التاریخ المغربي، وعندهم أن التاریخ‏ هو«ذاكرة الأمة». ولا مستقبل للأمة إذا لم تكن واعیة للماضي.

ولا یتصور الفكر المغربي «الثقافة المغربیة» إلا ضمن الثقافة العربیة الكبیرة تحتضنها وتغذیها وتتفاعل معها، كما لا یتصورها إلا متفتحة علی ثقافات‏ البحر الأبیض المتوسط تتفاعل معها کذلك في حوار لا ینقطع.

ومن المغرب العربي انطلقت شعلة الثقافة إلى قلب إفريقيا والجنوب‏ الغربي من أوربا (الأندلس) فكونت في شبه جزیرة أیبيریا حضارة وأخذت‏ من الإسلام دینه ولغته، ومن الأندلس حضارة وعلما، ومن الجنوب‏ الإفريقي عادات وعقائد وموسیقی‏.(2)

وأساطیل، وأصبحت لغة القرآن هي اللغة الدولیة للتجارة والعلم‏ والأسطول الموحدي الذي كان یضم 400 قطعة، أصبح أول أسطول في‏ المتوسط.

ولا ینسی الفكر المغربي العربي الإسلامي: القیروان رابعة العواصم‏ العربیة الكبری في نشر الثقافة، حیث انتقلت منها إلى السودان الغربي‏ وإلى الأندلس لغة العرب وثقافة الإسلام، ومن أهل القیروان نبغ أقطاب‏ اللغة والأدب کالقزاز والحصري وابن رشیق، وقد ورثت الزیتونة القیروان‏.

ولا ینسی المغرب أبطاله ومجاهدیه عبد القادر وعبد الكریم وعمر المختار وماء العينین، وأعلامه فی الأندلس من أمثال موسی أبي الغسان، یقول عبد المجید ابن التهامي «أتعرف أیها الطفل العربي، كم تمنیت أن یكون فی كل عواصم‏ الإسلام تمثال لموسی أبی الغسان الغرناطي (فارس غرناطة) تمنیت ذلك‏ إذكاء لشعورنا القومي، وإشارة إلى العصر الذي ازدهرت فیه العروبة و الإسلام».

ویرد الفكر المغربي علی آراء المستشرقین: نعم، طال أمد الاستعمار الروماني والبیزنطي والوندالي في البلاد، ولكنه لم یستطع أن ینال من‏ معنویاتها، أو یقضي علی شخصیتها.

فالمغرب رغم ارتضائه الإسلام دینا والعروبة لغة، ظل دائما معتدا بوجوده الخاص، ناشدا مكانه تحت شمس العروبة، وهو منذ القدیم‏ کذلك، وإنك لتجد فی کتب ابن جبیر وابن خلدون وفي شعر ابن هاني من‏ الأدلة الواضحة علی تمسك المغربي بوطنه، وحبه لبلاده، وتفضیله لها حتى‏ علی الأوطان الشقیقة مما لا تجده فی آثار أدباء الأمم المعاصرة لهم، هذه‏ الروح القومیة هي التي دفعت المغرب العربي إلى الاستبسال في سبیل الغرب‏ عن كیانه طیلة القرون الوسطی الأوربیة كلها، بعد أن توالت علیه هجمات‏ عدیدة من دولتین شدیدتي التعصب هما إسبانیا والبرتغال. (‏3)

وعندما غمرته التیارات الحدیثة، استطاعت طبیعة المغرب أن تتمرد علی هذا الغزو الموجه، لتبث قوة الاستمرار الحضاري والثقافي، ولتقضي‏ علی إرادة العزلة التي حاولت التیارات الاستعماریة أن تفرضها علی المغرب.

ولا ینسی الفكر المغربي هجوم فرسان مالطة علی طرابلس، وهجوم‏ الإسبان علی تونس وغزوة لویس التاسع ضد الحفصیین، والاستعمار الإیطالي.. ولا فاجعة (ماي 1954) ومعرکة سطیف.

أنور الجندي

(مجلة الأقلام العراقية؛ السنة الأولی، ربیع الثانی 1384 – شتنبر 1964)

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *