الاستشراف العلمي والتكنولوجي - 1

الرئيسية » الأعمدة » دراسات استشرافية » الاستشراف العلمي والتكنولوجي – 1

التوقعات العلمية والتخطيط لها

المقدمــــة:

إن التفكير في المستقبل سمة بشرية بامتياز، فوعي الإنسان بالزمن يجعله دائما متوثبا لمعرفة المزيد عن الماضي والحاضر والمستقبل. كما أن المعرفة العلمية، فتحت شهية العلماء وشوقتهم إلى تخيل إمكانية فهم وإدراك وحل ألغاز علمية محيرة.

والاستشراف العلمي أو التوقع العلمي أو التنبؤ العلمي، هو سعي إلى تبصر مآلات العلم وتطوراته؛ والنظر إلى مستقبل الإنسانية من خلال التحولات العلمية وتأثيرها على المجتمعات والسياسات والتمثلات الفردية والجماعية للحياة والوجود والكون. ومن المعلوم أن الانشغال بالاستشراف العلمي ليس ضربا من التنجيم أو التخريف وإنما محاولات لفهم التراكم المعرفي واستثماره للولوج إلى عوالم معرفية وعلمية جديدة، تمكن البشرية من فهم قوانين الطبيعة والتحكم فيها واستغلالها، لتحقيق القوة والرفاهية والتميز.

والاستشراف العلمي اليوم يحظى بكثير من الاهتمام والدعم من طرف الحكومات الغربية والشركات العالمية الكبرى، وذلك لاعتبارات متعددة منها المعرفي والجيوسياسي والجيوستراتيجي والجيواقتصادي والعقدي. فمستقبل الدول رهين ليس بامتلاكها للتكنولوجيا الرفيعة فقط، بل بالتوقع والتخطيط للسبق في مجالات علمية معينة، واستشراف مجالات أخرى غير مسبوقة.

فماذا يراد بالاستشراف العلمي؟ وما هي محدداته؟ وما هي مجالاته؟ وما هي المؤسسات التي تسهر عليه؟ وكيف تصاغ استراتيجيات الاستشراف العلمي؟ وما هي تداعيات ذلك على السياسات المحلية والعالمية؟ وما هي مآلات الاستشراف التكنولوجي؟

أولا: مفهوم الاستشراف العلمي وسياقه:

يستعمل لفظ الاستشراف أو التوقع أو التنبؤ بنفس المعنى، للدلالة على مقاربة علمية تتوخى سبر المستقبل واكتشاف المشاهد الممكنة للتطور التقني والعلمي والاختراعات الممكنة والاكتشافات العلمية التي من الممكن تحققها في مدة زمنية ، بناءا على معطيات ومؤشرات علمية راهنة.

ويقول كاكو بأن “التنبؤات حول المستقبل التي يقوم بها علماء محترفون أقرب إلى أن تبنى بشكل أكبر على وقائع المعرفة العلمية من تلك التي يقول بها نقاد اجتماعيون أوحى علماء من الماضي أبدوا تنبؤاتهم قبل أن تصبح القوانين العلمية الرئيسية معروفة بالكامل. وفي رأيي أن هناك أهمية خاصة لهذا التمييز بين “رؤى” التي تتعلق بإجماع عام بدأ يظهر بين العلماء أنفسهم والتنبؤات في الصحافة الشعبية، والتي تمت حصرا من قبل كتاب وصحافيين وعلماء اجتماع وكتاب الخيال العلمي وآخرين هم مستهلكون للتكنولوجيا بدلا من أولئك الذين ساعدوا في خلقها وتشكيلها…”[1].

فلقد مارس عدد من المتقفين ورجال السياسة والدين وغيرهم، الاستشراف في جميع المجالات، لكن كما أشار كاكو، فإن الاستشراف العلمي، هو من اختصاص العلماء المتخصصين في العلوم الدقيقة.

والاستشراف لغة[2] هو من مصدر (استشرف) أي صعد البرج للاستشراف على المدينة، للإطلال عليها من أعلى والنظر إليها. ويقصد بالاستشراف وضع اليد على الحاجب للاستعانة بذلك على الرؤية.

ويستعمل لفظ الاستشراف للدلالة على معنى التطلع والتأمل والتفقد والتبصر والنظر البعيد.

ويعتبر الباحث الفرنسي بيرجي غاستون[3]  (Gaston Berger – 1957) من الأوائل الذين صاغوا مفهوم الاستشراف، وكذلك برتراند جوفنيل (Bertrand Jouvenel, 1964) وقد نشرت دار النشر هارمتان نصوص أساسية حول الاستشراف[4].

وأسس الفيلسوف برجي، المركز الدولي للاستشراف سنة 1957، “ومنذ سنة 1955 قام “برجي” بصهر مبرراته لصالح أن يؤخذ المستقبل بعين الاعتبار وبشكل رسمي عند اتخاذ القرارات الإنسانية. ولتحقيق ذلك رسم الخطوط العريضة لمنهج جديد يصالح بين المعرفة والسلطة، الغايات والوسائل، يعطي للرجل السياسي المقدرة على تحويل نظرته للمستقبل إلى أفعال، أحلامه إلى مشاريع. ومنذ سنة 1958 قام بتدقيق أساليب هذه المقاربة الجديدة. وفي سنة 1960 ، بعد وفاته تم “تخليد”  فكره من قبل مجموعة من “المناضلين” الذين، انطلاقا من موقعهم في قلب المجتمع الاقتصادي والسياسي الفرنسي، تكلفوا بنشر المبادئ الكبرى لهذا الفكر، وقاموا بتطبيقه أثناء التحضير لبعض الخيارات السياسية الكبرى”[5].

لقد أضفى “برجي غاستون” الطابع المؤسساتي على الاستشراف، فلم يعد مجرد خيالات وتخمينات وتنبؤات فردية للباحثين وإنما لمؤسسات منصهرة مع التوجهات العامة لسياسة الدولة. ولا يمكن القول بأن الدراسات المستقبلية، بدأت غاستون برجي، فتاريخ المستقبليات مرتبط بالمؤسسة العسكرية الأمريكية، منذ الحرب العالمية الثانية، وخصوصا إسهام مؤسسة راند في صياغة المشاهد المستقبلية للأوضاع العالمية. ولكن المقاربة ألاستشرافية لغاستون برجي لها ما يميزها. “وإن الموقف الذي نادى به برجي غاستون تجاه المستقبل، يرتكز على ست ميزات أساسية: الميزة الأولى على الهدوء، باعتباره ضروريا لأخذ مسافة إلى الخلف تسمح بالمحافظة على التحكم في الذات. الخيال، المكمل والمفيد للعقل، الذي يفتح المجال أمام الابتكار ويعطي، لمن يستطيع أن يبرهن على ذلك، نظرة مختلفة، أصيلة عن العالم. روح الجماعة الضرورية لأي حركة جماعية مثلها مثل الحماس الذي يدفع إلى نفس الحركة ويجعل الإنسان قادرا على الإنشاء. الشجاعة الضرورية للخروج من الطرق المسطرة سلفا، القيام بالابتكار وقبول المخاطر الناجمة عنه، أخيرا، الروح الإنسانية والفضيلة باعتبارهما أولويتان، فلكي يعي مجتمع ما مصيره عليه أن يضع الإنسان في المقدمة”[6].

إن عمل برجي غاستون ألاستشرافي هو تفادي للأخطاء القاتلة لأصحاب القرار السياسي، حيث اهتم بوضع مناهج صارمة، لصياغة الخيارات الممكنة والنظر في مآلاتها المستقبلية.

وساهمت أعمال المركز الدولي للاستشراف[7] في التنبيه إلى المخاطر المحتملة للتقنيات الكبرى الجديدة مثل استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية، والسيبرنطيقا والفلك والطيران وغير ذلك. كما عالج المركز قضايا ذات صلة بمفهوم التقدم وتداعياته على المجتمع وعلاقات الغرب بالعالم. ودعا المركز إلى تبني مقاربات متعددة، تتلاقى فيها علوم وحقول معرفية كبيرة، و تتلاقح عبرها أفكار وتصورات ومنظورات شخصيات من مجالات متعددة (مجالات السياسة ومدراء الشركات الكبرى وباحثون جامعيون..).

إن الاستشراف العلمي مرتبط بفهم ودراسة الظواهر الطبيعية والقوانين المفسرة لمختلف أشكال الحياة والخلق. فالعلماء المهتمون بالتوقع العلمي، يسترشدون بالقواعد والمعادلات والنظريات التي تصاغ حول العلم. فعلماء الفلك لهم مقدرة علمية لرصد الظواهر الفلكية وتوقع حركات الكواكب والمذنبات وغير ذلك، لامتلاكهم مراصد ضخمة تتابع بشكل دقيق التحولات الفلكية. لذا فاستشرافهم مستند إلى قواعد وتجربة ومتابعة ورصد وتحليل وتوقع.

“فمن الحسابات المعقدة التي يجريها العلماء على “ميكانيكا” الأجرام السماوية المتقنة، يستطيعون التنبؤ مقدما بعدد مرات الكسوف والخسوف التي ستحدث في سنة، أو ربما لعشرات أو مئات السنوات القادمة. لو أرادوا ذلك – ليس هذا فحسب، بل بمقدورهم التنبؤ بموعد هذا الكسوف أو الخسوف بالشهر واليوم والساعة والدقيقة والثانية، بل وتحديد مكان حدوث هذا أو ذاك، وتقدير الزمن الذي يستغرقه الكسوف والخسوف، وهل سيكون كليا أو جزئيا، ومن سيراه من أهل الأرض.. الخ، وكل هذا نعرفه ونعاينه ونعيش فيه، ولا نستطيع أن نجادل في صحة هذا التنبؤ”[8].

وإذا كان العلماء يستندون على المعادلات الرياضية والحسابات المعقدة للتوقع، مثل نظرية انشتاين حول الطاقة، فالبعض منهم يعتمد على الحدس، وتطبيقات ذلك كثيرة، سنتحدث حولها لاحقا. ومن المعلوم أن المستقبليات المتكاملة وهي منهج أو مقاربة جديدة في “علوم” المستقبليات، ترتكز بالأساس على إدراج مفهوم الحدس والإلهام والكشف. حيث يقول الباحث جوزيف فوروس” وهكذا فإن المستقبليات المتكاملة لا تأخذ منظورا أحاديا، بل تميز، بالأحرى عدد وافرا من الرؤى. وهي ليست محددة بأداة أو منهجية مفردة، بل إنها بالأحرى تدرك وجود تشكيلة أدوات شاملة (وهي الحقيقة لا نهائية). وهي تقر بوجود العديد من طرق المعرفة – والعديد من النماذج والممارسات ومنهجيات طلب المعرفة – وبأن أي نموذج وحده لا يمكن أن يعطي تفوقا مسبقا… وترحب دراسة المستقبليات المتكاملة بكل الأساليب الحريصة الصادقة الباحثة عن المعرفة في جميع نواحي الفعالية الإنسانية كما تتبناها وتقيمها إذا ما كانت مناسبة ووافية – بما في ذلك التحليل المنطقي والاستشراف الحدسي والإلهام الروحي”[9].

ارتبط الاستشراف العلمي بالتحولات التقنية التي عرفها الغرب، حيث ساهم الفلاسفة والعلماء في مناقشة واستشراف الثورة العلمية الأوروبية؛ فقد خصص فرانسيس باكون وغيره من المفكرين اللامعين، دراسات حول العلم وتداعياته؛ فكتب باكون في كتابه “ّقارة الاتلنتيد الجديدة” “بأن إنجاز كل شيء ممكن”.

ويقول ايان ميلز[10] “كانت هناك دراسات استشرافية قبل الثورة الصناعية، فقد كانت بعض الكتابات الخيالية، قد اتخذت المستقبل موضوعا عوضا عن الجزر البعيدة أو القصر وكما رأينا سابقا كان بعض الفلاسفة والعلماء قد تساءلوا عن نتائج علم تطبيقي يهدف إلى تحقيق كل ما هو ممكن. كان جوناثان سويت قد أدان التغيرات التي جلبتها الثورة الصناعية، هي التي نبهت إلى الانكماش في النشاط الاقتصادي وإلى الفروقات الاجتماعية والانقطاعات في التطور الاجتماعي. وقد دفع هذا الأمر إلى مضاربات وصراعات حول مبدأ التنافس الحر وحول الاقتصاديات ذات النمو السلبي وحول الاشتراكية العلمية كنماذج مستقبلية مقترحة. وقد ارتبطت هذه التأملات دائما بموقف سياسي يعمل على توجيه المستقبل نحو الغاية المرجوة.

لقد كان الاقتصاديون الكلاسيكيون تعميميين بامتياز، فما يسمى عندنا الآن بالدراسات حول العلم والتكنولوجيا (أو علم اجتماع العلم والتكنولوجيا) أو الاستشراف (أو علم المستقبليات) لم يكن يمثل عندهم إلا جزءا بسيطا من أعمالهم وإن كان لها أهمية كبيرة داخل هذه الأعمال”[11].

إن الانتقال إلى مرحلة التخصص، جعلت الاقتصاد السياسي يتخلى عن الدراسات والأبحاث المهتمة بالعلوم والتكنولوجيا والاستشراف.

ويعتبر (H.Wells) الباحث والمتخصص في الصحافة العلمية، من أهم المفكرين الذين جمعوا بين الدراسات حول العلم والتكنولوجيا والعمل الروائي لصياغة مشاهد مستقبلية خيالية، حول تطور العلم والتكنولوجيا والعلم في خلق مجمع مثالي وتشكيل مستقبل البشرية. وساهمت مجلة[12] (Daedalus) في نشر أعمال كثيرة حول استشراف المستقبل وفي مجالات متعددة.

وكان هناك انقسام في الفترة ما بين الحربين، بين العلماء حول الدور الذي ستلعبه التكنولوجيا في المستقبل، فالمفكر هلدان[13] (Heldane J.B.S) دافع عن فكرة مساهمة التطور التقني في تغيير الوضع الاجتماعي بشكل إيجابي إلى درجة يكون فيها متساويا مع الاشتراكية، بينما اتجه برتراند راسل إلى رسم مشهد كارثي لتداعيات العلم على النظام الاجتماعي.

“وفي الولايات المتحدة الأمريكية بالمقابل، ظهرت دراسات ذات صبغة تجديدية للتغيير الاجتماعي والتكنولوجي من قبل علماء اجتماع خاصة (Ogburun William.F) و(S.Colam) اللذين انقطعا إلى دراسة اتجاهات التكنولوجيا واهتما باتجاهات وتداول منحنيات التوزيع الإحصائي الاجتماعي وتشتته، وبالتقنيات الوليدة التي تسميها الآن بالاستشراف التكنولوجي أو دراسة المؤثرات والفعالية”[14].

ومن المعلوم أن مؤسسة راند الأمريكية[15] وكذلك معهد ستانفورد للبحوث، ساهما إلى حد كبير في تطوير التوقعات التكنولوجية ولذلك لاعتبارات عسكرية بالنسبة لمؤسسة راند التي لها علاقات مع المؤسسة العسكرية الأمريكية ولاعتبارات اقتصادية وتجارية بالنسبة لمعهد ستانفورد، لكونه تجمعا لمدراء. كما ساهمت شركة رويال دونش رشل في تطوير البحوث التوقعية حول التكنولوجيا.

وهكذا فالاستشراف العلمي أو التوقع العلمي، أو التنبؤ العلمي، هي مفاهيم يقصد بها مجموعة من الخطوات المحددة لإمكانية فهم مستقبل البحث العلمي وإمكانية اكتشاف حلول لمعضلات علمية.

ثانيا: محددات الاستشراف العلمي والتكنولوجي.

تكمن هذه المحددات في نظرنا في الوازع المعرفي المحض، ثم الاعتبارات الأمنية والجيوسياسية والجيواقتصادية، وكذلك الاعتبارات التجارية الاقتصادية وأخيرا التمثلات العقدية.

1- المحدد المعرفي.

إن الاستشراف التكنولوجي نابع من ذلك الهوس العلمي بإيجاد حل للمشكلات العلمية المستعصية في فترة علمية، فيلجأ العلماء إلى القوة التخيلية المنطقية، لتصور أوضاع علمية ممكنة تمكن من فك مسائل علمية لا إجابات لها في الحاضر، ولهذا فالمحدد المعرفي لهذا الاستشراف، متحرر من أي نوازع وطموحات سوى المعرفة أو السبق العلمي. وجل الباحثين مارسوا الاستشراف أو التوقع العلمي. “فمن التنبؤات العلمية التي ذكرها لنا دكتور إسحق ازيمون في كتابه “نحو الند” تلك النبوءة التي نشرها الباحث العلمي المعروف آرثر كلارك في مجلة “عالم اللاسلكي” عام 1945، وفيها يشير إلى أنه بالإمكان تصميم شبكة من الاتصالات الإلكترونية ذات الكفاءة العالية، ليس هنا على الأرض، بل على ارتفاع 22 ألف ميل في مكان ما بالقضاء، يقع بالتحديد فوق خط الاستواء، وأنه بالإمكان تثبيت مكان هذا التصميم الإلكتروني فوق بقعة محددة من سطح الكوكب في حالة دورانه حول الأرض مرة كل 24 ساعة، ليس ذلك فحسب بل يمكن تغطية سطح كرة الأرضية كلها بشبكة من الاتصالات ثلاثة فقط من من هذه التصميمات موزعة في القضاء على المسافات محددة…”[16] هذا التوقع تحقق بعد عشرين سنة، إذ تم إطلاق أولا قمر اصطناعي للاتصالات الذي أطلق علمية (Early Bird) الطائر المبكر، في سنة 1965. وبعد ذلك الاستعمال المتعدد (تجاري – علمي – تجسس – عسكري – مناخ…). والأمثلة كثيرة عن التوقعات العلمية التي تحققت، وهي استشرافات علمية، مستندة إلى منطق علمي ومعطيات دقيقة وليس مجرد تخمين أو ضرب من الهلوسة.

وهناك إجماع علمي اليوم، على كون الثورات العلمية والتكنولوجية المتتالية، ستمكن العلماء من فهم وإدراك الكثير من أسرار الطبيعة. وأصبح من الممكن توقع الكثير من الاكتشافات العلمية، بفضل التقنية المتوفرة، والتي ستتوفر في المستقبل القريب.

ولهذا يعتقد العلماء بأنه في العام 2020، وبفضل التقنية المتطورة للكومبيوتر وتسلسل  “د.ن.أ” ستظهر صناعات جديدة، مرتبطة باكتشافات علمية كثيرة. ولكن هذا لا يعني إطلاقا، أن جميع أسرار الطبيعة، ستكون في المتناول، فسيواجه العلماء مشاكل علمية جديدة، مرتبطة بتعقيدات علمية وتقنية مستقبلية. إلا أن هذا الانشغال بوضع العلم والتكنولوجيا مستقبلا، لا يحركه عند العلماء أو بعضهم سوى الهاجس المعرفي/العلمي.

2- المحدد الأمني والجيوسياسي والجيواقتصادي.

لا يجادل أحد في كون الدول القوية، أصبحت تحدد مفهوم قوتها من خلال الرأسمال العلمي والتكنولوجي. فالتنافسية العالمية حول امتلاك التكنولوجيا الرفيعة، جد مرتفعة؛ إذ يمكن الحديث عن حرب علمية تكنولوجية دائرة بين القوى العالمية الكبرى. فمن يملك تكنولوجيا المستقبل، سيتحكم في العالم أكثر. وتتجسد أولا، التنافسية التكنولوجية، على مستوى عدد براءات الاختراع المسجلة.

فبناءا على إحصائيات المنظمة العالمية للملكية الفكرية، فإن الدول العشر الأولى سنة 2012 هي كالتالي:[17]

الدولـــــة

عدد براءات الاختراع

الولايات المتحدة الأمريكية

48596

اليابان

38888

ألمانيا

18568

الصين

14406

كوريا الجنوبية

10447

فرنسا

7664

بريطانيا

4844

سويسرا

3999

هولندا

3494

السويد

3466

ويلاحظ بشكل جلي الحضور المهم للدول الأوروبية، والتقدم المذهل لكوريا الجنوبية التي تحتل الرتبة الخامسة.

أما الدول العشر الأولى على مستوى إنتاج البحوث العلمية ونشرها سنة 2012 فهي كالتالي:[18]

الدولة

عدد المنشورات العلمية

الولايات المتحدة الأمريكية

208601

الصين

74019

اليابان

49627

بريطانيا

45649

ألمانيا

45003

فرنسا

31748

كندا

29017

إيطاليا

26755

كوريا الجنوبية

22271

إسبانيا

21543

أما تصنيف الدول الخمس الرائدة في مجالات علمية محددة فهو كالتالي:[19]

ففي مجال الزراعة والصناعات الغذائية:

  • الرتبة 1 – أمريكا.
  • الرتبة 2 – الصين.
  • الرتبة 3 – ألمانيا.
  • الرتبة 4 – البرازيل.
  • الرتبة 5 – اليابان.

في مجال السيارات:

  • الرتبة 1:  اليابان.
  • الرتبة 2: ألمانيا.
  • الرتبة 3: الولايات المتحدة الأمريكية.
  • الرتبة 4: الصين.
  • الرتبة 5: كوريا الجنوبية.

في مجال الأبحاث الفضائية العسكرية والدفاع والأمن:

  • الرتبة 1: أمريكا.
  • الرتبة 2: الصين.
  • الرتبة 3: روسيا.
  • الرتبة 4: بريطانيا.
  • الرتبة 5: فرنسا.

في مجال الفضاء والنقل السككي:

  • الرتبة 1: أمريكا.
  • الرتبة 2: الصين.
  • الرتبة 3: فرنسا.
  • الرتبة 4: ألمانيا.
  • الرتبة 5: اليابان.

في مجال النانوتكنولوجيا:

  • الرتبة 1: الولايات المتحدة الأمريكية.
  • الرتبة 2: اليابان.
  • الرتبة 3: ألمانيا.
  • الرتبة 4: الصين.
  • الرتبة 5: بريطانيا.

في مجال الطاقة:

  • الرتبة 1: الولايات المتحدة الأمريكية.
  • الرتبة 2: ألمانيا.
  • الرتبة 3: الصين.
  • الرتبة 4:. اليابان.
  • الرتبة 5:بريطانيا.

في مجال الصحة والبيوتكنولوجيا:

  • الرتبة 1: الولايات المتحدة الأمريكية.
  • الرتبة 2: بريطانيا.
  • الرتبة 3: ألمانيا.
  • الرتبة 4: اليابان.
  • الرتبة 5: الصين

في مجال المعلوميات والاتصال:

  • الرتبة 1: الولايات المتحدة الأمريكية.
  • الرتبة 2: اليابان.
  • الرتبة 3: الصين.
  • الرتبة 4: الهند.
  • الرتبة 5: ألمانيا

في مجال التجهيزات الالكترونية:

  • الرتبة 1: الولايات المتحدة الأمريكية.
  • الرتبة 2: اليابان.
  • الرتبة 3: ألمانيا.
  • الرتبة 4: الصين.
  • الرتبة 5: بريطانيا.

إن التنافسية في مجال التكنولوجيا والعلوم، تبدو واضحة كذلك من خلال النظر في حجم الميزانيات المخصصة للبحث العلمي والتنمية، وهكذا فإن الدول العشرة الأولى في هذا المجال هي كالتالي:[20]

الرتبة

الدولة

الميزانية (مليار دولار)

النسبة من الانتاج القومي

1

الولايات المتحدة الأمريكية

436.0

2.85

2

الصين

198.9

1.60

3

اليابان

157.6

3.48

4

ألمانيا

90.6

2.87

5

كوريا الجنوبية

56.4

3.45

6

فرنسا

51.1

2.24

7

بريطانيا

42.4

1.84

8

الهند

41.3

0.85

9

البرازيل

30.0

1.25

10

كندا

28.6

2.00

إن الصراع الجيوسياسي، هو ذلك التدافع العنيف والرخو بين الدول حول تقدير مصلحتها في امتلاك التكنولوجيا وتقدير الخسائر والمخاطر التي يمكن ان تقع فيها بموجب عدم امتلاك التكنولوجيا والإسهام في الاكتشافات العلمية، وامتلاك حقوق براءات الاختراع. فهو صراع مرتبط بالأمن الشامل للدولة، بأبعاده الاقتصادية والعلمية والحضارية والسياسية. ولذلك فالاستشراف العلمي ليس ضربا من الترف العلمي، بل هو هاجس للبقاء والتفوق والتميز والقدرة على إدارة التوجهات الكبرى للتفاعلات العالمية.

3- المحدد التجاري / الاقتصادي.

إن الاهتمام بالبحث العلمي والاستشراف في مجالات التكنولوجيا، لا ينحصر في القطاع العام وإنما كذلك تمارسه الشركات العالمية الكبرى لامتلاكها الامكانيات المادية الكافية.

فالشركات الكبرى، تتنافس فيما بينها، للحصول على توقعات علمية وتكنولوجية والنظر في إمكانية الاستفادة من ذلك، في تطوير منتجاتها وغزو الأسواق.

وهكذا نجد شركات كبرى تستثمر أموالا كبيرة في مجال البحث العلمي والاستشراف التكنولوجي:[21]

الرتبة

الشركة

الدولة

الميزانية

(مليار دولار)

المجال

1

Toyota

اليابان

9.9

السيارات

2

Novartis

سويسرا

9.6

الصحة

3

 (Roche Holding)

سويسرا

9.4

الصحة

4

(Pfizer)

أمريكا

9.1

الصحة

5

Microsoft

الولايات المتحدة الامريكية

9.0

البرمجيات

6

  Samsung

كوريا الجنوبية

9.0

الالكترونيك

7

Merck and Co Inc

الولايات المتحدة الامريكية

8.5

الصحة

8

Intel

الولايات المتحدة الامريكية

8.4

الالكترونيك

9

General Motors

الولايات المتحدة الامريكية

8.1

السيارات

10

 Nokia

فلندا

8.8

الالكترونيك

فمن الملاحظ ان المجال الأهم هو الصحة ثم الالكترونيك ثم السيارات. كما يلاحظ هيمنة الولايات المتحدة الامريكية عبر خمسة شركات كبرى. وهناك اتجاه لدعم المؤسسات المتوسطة، لدمج تقنيات الاستشراف في إدارة اعمالها والتخطيط واتخاذ القرار. وقد قامت شركة[22] (Z-Punkt) سنة 2002 بدراسة مهمة حول الاستشراف لدى الشركات، حيث قامت بمسح حوالي 60 شركة لمعرفة، المناهج الاستشرافية التي تلجأ إليها في بناء منظوراتها حول مستقبل أعمالها والبيئة العالمية للتجارة.

وأكدت الدراسة تطور استعمال النماذج الاستشرافية لدى الشركات الألمانية، والاهتمام بالبحث ألاستشرافي.

4- المحدد العقدي.

إن الاهتمام بالتكنولوجيا وممارسة التوقع العلمي والتكنولوجي مرتبط كذلك بالجانب العقدي، حيث نجد الحركة ما بعد الإنسانية transhumanisme تبني تصوراتها لمستقبل التكنولوجيا والعلم على فكرة تحقيق الخلود. حيث يقول أحد رواد هذه الحركة “لكن كيف سيتمكن البشر من تحقيق الخطوة التالية في عملية التطور، ويصبحون أول نوع يتمتع افراده بالخلود على كوكب الأرض؟ علينا أولا، تفهم الصدى الداخلي لدينا على المستويين الاجرائي والجزيئي. الأمر الثاني، علينا إعادة برمجة جيناتنا للتخلص من بديل التطور الأولي للخلود، وهو موت الخلايا. الأمر الثالث، علينا تجنب أو معالجة اضمحلال الخلايا، والأمر الرابع، يتوجب علينا الدفاع عن انفسنا ضد الأخطار البيئية. وأخيرا علينا تطبيق طريقة كفوءة للتطور الداخلي لتحسين أدائنا بالنسبة للبيئة.

(…) وتقوم الاكتشافات في حقول علمية مختلفة كالتكنولوجيا الحيوية والنانوتكنولوجيا والمعلوماتية وعلم الأعصاب بفتح الطريق أمام إنسان الغد الخالد. وليس الطب ضد الشيخوخة والمعالجات لتمديد الحياة وعيادات إطالة العمر، إلا قمة جبل الجليد للاكتشافات العلمية الجديدة، التي سوف لا تقتصر مهمتها على إطالة فترة حياة الإنسان بل ستشمل عما قريب إعادة الشباب ايضا. إن العلم يرينا هنا والآن ما وعدنا الدين به لكن خارج وقتنا ومكاننا. إن فلسفة عبر الإنسانية (Transhumanisme) وهي فلسفة مبنية على العلم، والأفكار الإنسانية الاولية تشير إلى إمكانية تجاوز المحددات التي تعتري الإنسان حاليا بما في ذلك الموت” !!

وهناك اتجاهات فكرية أخرى تؤمن بان التكنولوجيا قادرة على حسم صراعات الألفية الثالثة، تحقيق النصر في معركة هرمجدون[23] ضد الأشرار !! لهذا يتعين اعتماد الاستشراف العلمي والتخطيط، للتحضير للمواجهة الكبرى.

د. خالد ميار الإدريسي
رئيس تحرير مجلة مآلات، فصلية محكمة تعنى بالدراسات الاستشرافية

الهوامش:

[1] – ميتشو كاكو: رؤى مستقبلية. كيف سيغير العلم حياتنا في القرن الواحد والعشرين. ترجمة سعد الدين خرفان عالم المعرفة 270، 2001 ص: 14.

[2] – انظر القاموس العربي الرقمي، معنى كلمة الاستشراف في المعاجم العربية:  www.arabdict.com

ليس الغرض عندنا في هذه الدراسة،القيام باستعراض وفحص مختلف التعاريف المصاغة حول الاستشراف وكذا نقدها. إذ سنخصص دراسة مستقلة للنقد الايستموولوجي لمفاهيم الاستشراف وبيان تحيزاتها المعرفية.

[3] – نشر غاستون دراسة سنة 1957 في مجلة العالمين، (Revue des deux mondes).

– Berger, G : « Sciences humaines et prévision », La Revue des deux mondes, n° 3, Février, in Berger, G (1969), Phénoménologie du temps et prospective. PUF

– Berger, G : « l’attitude prospective», l’encyclopédie française

– Berger, G : Etapes de la prospective. PUF 1967

[4] – Berger, G, Jacques de Bourbou-Busset, P,Massé : De la prospective : Textes fondamentaux de la prospective française (1955-1966) L’harmattan 2007

[5] – ميشال غوديه، فيليب دوران، قيس الهمامي: الاستشراف الاستراتيجي للمؤسسات الاستشراف الاستراتيجي والتنظيم (بدون تاريخ) ص: 15.

[6] – نفسه، ص: 15.

[7] – نفسه.

[8] – عبد الحسن صالح: التنبؤ العلمي ومستقبل الإنسان. عالم المعرفة عدد 48، 1981 ص: 19.

[9] – ريتشارد سلوتر: المستقبليات المتكاملة – عصر جديد لممارسي المستقبليات ضمن واغنر (تحرير) الاستشراف والابتكار الاستراتيجي ترجمة صديق الدملوجي مركز الدراسات العربية 2005، 500 و 510.

[10] – ايان ميلز: العلم والتكنولوجيا والاستشراف ترجمة نور الدين العلوي وأحمد خواجة. أوراق الأوسط – سلسلة التحاليل والاستشراف – كراس نصف سنوي يصدر عن مصدر مركز البحوث والدراسات الاقتصادية والاجتماعية (بدون تاريخ) ص: 48 ترجم عن المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية عدد: 137.

[11] – نفسه، 48.

[12] – نفسه، 49.

[13] – نفسه، 49.

[14] – اندرياس نيف، كورنيليا داهايم: استشراف الشركات: التجربة الأوروبية ضمن واغنر (تحرير) مرجع سابق ص: 413.

[15] – عبد الحسن صالح، التنبؤ العلمي مرجع سابق ص: 27 – 28.

[16] – Atlas géostratégique 2013. Diplomatie Les grands dossiers N° 12. 2013, pp 42

[17] – Ibid. 43.

[18] – Ibid. 44.

[19] – Ibid. 44.

ليس الغرض عندنا تحليل المعطيات وإنما فقط الإشارة إلى طبيعة التنافسية العالمية في مجال التكنولوجيا من خلال أرقام ومؤشرات واضحة، وسنخصص دراسة لاحقة لموضوع السياسات العمومية العالمية في مجال التكنولوجيا.

وللتوسع في مجال الأرقام والمعطيات يمكن الاطلاع على التقرير التالي:

– Principaux indicateurs de la science et de la technologie, volume 2012/1, OCDE, 2012. Le rapport intégral est consultable en ligne dans sa version anglaise : http://dx.doi.org

[20] – Atlas géostratégique op.cit, p : 43

[21] – واغنر (تحرير) مرجع سابق ص: 419.

[22] – نفسه، ص: 162.

[23] – أنظر الكتابات الكثيرة حول معركة هرمجدون.

– كارلوتاجيزن: معركة هرمجدون وتأسيس مملكة الرب. ترجمة أحمد علي أحمد علي. دار الكتاب العربي 2002.

– هشام كمال عبد الحميد: الحرب العالمية القادمة في الشرق الأوسط دار البشر، القاهرة:2002.

– محمود النجيري: هرمجدون. مكتبة النافذة، القاهرة 2003.

– منصور عبد الحكم – الحسيني معري: هرمجدون ونهاية أمريكا وإسرائيل. دار الكتاب العربي 2007.

– غريس هالسل: يد الله. ترجمة محمد السماك. دار الشروق.

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *