الأصول العقدية لصورة المغربي في الثقافة الإسبانية

الرئيسية » علم وحضارة » الأصول العقدية لصورة المغربي في الثقافة الإسبانية
  1. صورة المغربي في الثقافة الإسبانية

    1. مفهوم الحروب الصليبية في أوروبا ومقدماتها

 عرفت الحروب الصليبية في التاريخ الأوروبي والإسلامي معا بأنها تلك المعارك التي قادتها الكنيسة المسيحية خلال أربعة قرون، من القرن الحادي عشر إلى القرن الخامس عشر للميلاد، ضد العالم الإسلامي في المشرق تحت غطاء تحرير بيت المقدس. واختلف تفسير الحروب الصليبية بحسب العصور، فمفكرو العصر الوسيط كانوا يعتبرون الحروب الصليبية إما حروبا مقدسة تهدف إلى تحقيق أغراض مقدسة بتوجيه من الرب الذي وكل هذه المهمة إلى البابا، خليفته على الأرض، وإما أنها رحلة للحج إلى الأماكن المقدسة وراء البحار لغفران الخطايا، وكان يطلق على كل من يقوم بهذه الرحلة لقب”الحاج الفقير”، أما الحملات المسلحة لأغراض الهجوم أو الدفاع فكان يطلق عليها اسم”الحج الجماعي”، وهي تعني الحملة الصليبية. وفي القرن الثامن عشر بدأ مفكرو عصر النهضة بأوروبا يعتبرون تلك الحروب دليلا على انفجار روح التعصب في المجتمع المسيحي خلال العصور الوسطى، ورأوا أنها تلقي ضوءا على عقلية ذلك العصر التي لم تكن تقبل مناقشة الآراء والمعتقدات.

أما مصطلح الحرب الصليبية فلم يظهر إلا في القرن السابع عشر للميلاد على يد الباحث الانجليزي توماس فوللر الذي وضع أول دراسة حول تلك الحروب، بيد أن فوللر أطلق أيضا على تلك الحروب تسمية الحرب المقدسة، إذ ألف كتابا بعنوان “تاريخ الحروب المقدسة”، وهو المصطلح الذي كان رائجا قبل ذلك التاريخ لترجمة الواقع السياسي والعسكري فيما بين القرنين الحادي عشر والخامس عشر في أوروبا.

لقد نعم المسيحيون منذ تأسيس الدولة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية بأكبر قدر من التسامح الديني بين المسلمين، فكانوا يمارسون طقوسهم الدينية بكل حرية ويتمتعون بحقوقهم المدنية ويتنقلون بحرية تامة في جميع أنحاء الإمبراطورية الإسلامية ويملكون حرية الاتصال بأمراء البلدان الأجنبية الذين ينتمون إلى دينهم، كما كانوا يملكون حق تملك الأراضي جنبا إلى جنب مع المسلمين، وتفتح في وجوههم أبواب مناصب المسؤولية في الدولة الإسلامية. وفي إطار مناخ الحرية الذي كانوا يتوفرون عليه كان يسمح للحجاج المسيحيين بدخول أرض فلسطين دونما عراقيل، بل إن فتح المسلمين للقدس سهل حركة الحج أكثر أمام المسيحيين بدل أن يقيدها، والأكثر من ذلك ساهم الفتح الإسلامي بقسط كبير في وقف سفك الدماء بين الممالك المسيحية المتناحرة بسبب الاختلافات الدينية فيما بينها. وفي أواخر القرن العاشر ظهر الاعتقاد المسيحي بأن العصر الألفي السعيد قد حان، فشرعت الجموع الغفيرة تتدفق على الأرض المقدسة من مختلف مناطق العالم اللاتيني، وتزايد عدد هؤلاء الحجاج ـ كما أطلق عليهم ـ خلال العقود اللاحقة حتى وصل الإقبال أوجه خلال القرن التالي.

تزامنت تلك الأوضاع مع الأزمة التي كانت تعيشها الكنيسة الكاثوليكية في عهد البابا جريجوريس السابع(1015ـ1085) في مواجهة الإمبراطور هنري الرابع(1050ـ1106)، فقد كان هذا الأخير يسعى إلى فرض سلطته الزمنية على السلطة الروحية للكنيسة، بينما كان البابا يريد جعل السلطة الزمنية تحت يده بدعوى تفوق الشرعية الروحية على الشرعية الزمنية. وقد وضعت الكنيسة نصب عينيها هدفا تريد الوصول إليه وهو”تحرير الكنيسة” من الأباطرة والعلمانيين، وتوطيد سلطة البابا الملوكية داخل الكنيسة وفرض وصايته على جميع الملوك، وهي المواجهة التي استمرت لسنوات وأطلق عليها اسم”معركة الخلافة”، واستمرت قرابة نصف قرن، وانتهت بانتصار البابوية على الإمبراطور. وقد رتبت نتائج ذلك الصراع وضعا جديدا في أوروبا المسيحية، بحيث انقلبت المعادلة بين السلطتين الروحية والزمنية، وأصبحت سلطة البابا الروحية المقدسة لا يجادل فيها أحد، فقد كان جميع ملوك أوروبا يجلونه ويلتمسون عنده الحظوة ويحاولون التقرب إليه بشتى الأعمال لكي يحصلوا على اللقب الديني، وهكذا حصل ملك فرنسا مثلا على لقب”صاحب الجلالة المسيحي جدا”، وملك إسبانيا على لقب”صاحب الجلالة الكاثوليكي جدا”، وملك البرتغال على لقب”صاحب الجلالة المخلص للغاية”.

بعد خروج الكنيسة الكاثوليكية من الأزمة السياسية التي نشبت بينها وبين الملوك الأوروبيين وإعادة بسط نفوذها الروحي على أوروبا، شرعت في شن حملات ضد الفرق المسيحية الأخرى التي تتهمها بالهرطقة والضلال، وقد سميت تلك الحروب حروبا صليبية لأن الكنيسة كانت تقول بأن الرب هو الذي أرادها، وبأن الهدف منها هو رد الاعتبار للصليب والانتصار للمسيح، لذلك فإن الحروب الصليبية نشأت في البداية كحروب مسيحيين ضد مسيحيين، من أجل وحدة الكنيسة قبل أن تتحول إلى حروب ضد المسلمين في الشرق.

وقد جاءت الحروب الصليبية ضد المسلمين في القرن الحادي عشر الميلادي كتتويج لمسار طويل من الحروب المقدسة داخل أوروبا فيما بين الطوائف المسيحية نفسها، قبل أن يتم نقل هذه الحروب من الغرب إلى الشرق(6)، مدفوعة بعقيدة ثابتة لدى المسيحيين وهي العودة إلى أرض المسيح في فلسطين، ذلك أن هذه الأرض المقدسة شكلت بالنسبة للمسيحيين رمزية دينية كبيرة، ليس فقط لأن الكتاب المقدس قد تحدث عنها، بل كذلك بسبب”المسيح المخلص” نفسه الذي ترمز إليه، لأنه ولد وقام بدعوته ومات بها، وكانت العودة إلى تلك البقعة من الأرض بالنسبة للمسيحيين تعني الرجوع إلى المهد الأول الذي نشأ فيه المسيح عليه السلام، معتقدين بأن المسيح سيفتح لهم أبواب السماء من هناك(7).

  1. 2. صورة الإسلام في أوروبا خلال القرون الوسطى

يتفق جل المؤرخين لتاريخ العلاقات بين العالم الإسلامي والغرب المسيحي على أن أولى التصورات المشتركة لدى الفريقين عن بعضهما البعض ترجع إلى القرن الحادي عشر للميلاد، الخامس للهجرة، الذي شهد ميلاد الحروب الصليبية في أوروبا المسيحية. فقبل ذلك التاريخ كانت تصورات الأوروبيين عن الإسلام والعرب والمسلمين تصورات غامضة وغير واضحة المعالم، كما كانت معلوماتهم عن الإسلام ضئيلة جدا ومشوهة، وكانت تتم الإشارة إليهم في البداية على أنهم أعراب شبه الجزيرة العربية، أي بوصفهم جنسا عربيا فقط “يقيمون حياتهم على النهب واللصوصية”(1). وما يظهر جهل أوروبا المسيحية بالإسلام في بداياته أنهم أطلقوا تسمية”السارازين” أو”السارازان” * على العرب والمسلمين والوثنيين وعلى جميع أعداء المسيحية كيفما كانت انتماءاتهم، كما أن البابا أوجينيوس أطلق تلك التسمية لوصف السلاف الأوروبيين الشرقيين، وفي القصص الدينية الفرنسية أطلقت التسمية على العرب والمسلمين والوندال والفايكنج وغيرهم من”غير المؤمنين”، وخلال القرن الثاني عشر أطلق على المسلمين والعرب والنورمان والوثنيين اسم الهاجاريين ** (2)، وسنلاحظ في فصل لاحق أن هذه التسمية الأخيرة أطلقت على المغاربة أيضا في القرن الثامن عشر من طرف الإسبان.

ولم يلفت ظهور الإسلام كعقيدة توحيدية أنظار أوروبا إلا بصعوبة، فقد ظل مجهولا لدى سكانها، كما أنه ليس هناك ما يدل على أن أحدا كان يعرف باسم النبي محمد(صلعم) قبل الحرب الصليبية الأولى(3)، وكان ينبغي الوصول إلى غزو المسلمين للأندلس وصقلية لكي تبدأ أولى فصول الاحتكاك بين أوروبا المسيحية والإسلام(4)، حيث أخذت أوروبا تعي وجود عدو منافس لها على المستوى العقائدي ممثلا في الإسلام الذي طرح مفهوما جديدا للألوهية والتوحيد، وقدم نفسه على أنه الدين الصحيح الخاتم.

اعتقد الأوروبيون أن الدين الجديد سرعان ما سيتعرض للانكماش سياسيا وفكريا ولن يتمكن من بسط سيطرته في مواجهة المسيحية، التي كانت تمد نفوذها في آسيا وإفريقيا خارج أوروبا، مقللين من أهمية الإسلام باعتباره”نتاج وهم شرير”(5)، لكن التقدم الذي حققه المسلمون خلال فتوحاتهم الأولى في المناطق التابعة للنفوذ المسيحي جعل أوروبا تستشعر قوة الخصم الجديد، فقد وصل الإسلام أولا إلى فارس وسوريا ومصر ثم تركيا وشمال إفريقيا، وفي القرنين الثامن والتاسع للميلاد فتحت إسبانيا وصقلية وأجزاء من فرنسا، وبمجيء القرنين الثالث عشر والرابع عشر كان الإسلام قد توغل شرقا حتى الهند وأندونيسيا والصين، وفي كل هذه الفتوحات كانت قوة الإسلام الثقافية والدينية تتقوى بشكل مطرد في المناطق التي يحتلها المسلمون، ولم تكن أوروبا تستطيع تقديم أي استجابة أمام ذلك التقدم العسكري والحضاري الهائل للإسلام سوى الخوف والشعور بالرهبة، وأصبح الإسلام بمقتضى ذلك رمزا للرعب والدمار والعمل الشيطاني، ونظر الأوروبيون المسيحيون إلى المسلمين والعرب بوصفهم”أفواجا من البرابرة الممقوتين”، وتحول الإسلام إلى”رجة مأساوية دائمة” بالنسبة للمسيحية(6).

لقد كانت أوروبا المسيحية في صدام دائم مع الإسلام منذ ظهوره في شبه الجزيرة العربية، لكن الصورة التي رسمها الأوروبيون عن الإسلام والمسلمين لم تكن صورة واحدة وواضحة المعالم، بل كانت هناك عدة صور مختلفة باختلاف التجارب مع الإسلام وباختلاف المعارف التي كانت متوفرة عن هذا الدين الجديد وعن معتنقيه، وهي معارف كانت ضحلة وقليلة جدا على كل حال، لكنها كانت تساهم في تشكيل الوعي المسيحي بالإسلام خلال القرون الأولى، أما أثناء الحروب الصليبية الأولى ـ في القرن الحادي عشر للميلاد ـ فقد بدأت صورة الإسلام تتكون بشكل تدريجي في الوعي الجماعي للمسيحيين، سواء لدى النخبة وخاصة رجال الدين، أو لدى العامة.

لم تكن تلك الصور تعكس حقيقة الإسلام كدين، ولكنها كانت منتشرة بحيث كانت تبدو بالنسبة لعامة الأوروبيين بوصفها الحقيقة الكاملة التي لا يداخلها شك. فالحروب الصليبية لم تساهم في توضيح الصورة الحقيقية للإسلام لدى الأوروبيين، بقدر ما زادت في التشويش عليهم وعملت على زرع مفاهيم وأفكار مغلوطة في العقل الأوروبي لأهداف صليبية بحيث تخدم الغايات التي تسعى إليها الكنيسة، التي كان هدفها الوحيد هو شحن عقول المسيحيين بصور نمطية عن الإسلام والمسلمين تشجعهم على خوض القتال ضدهم بوصفهم”كفرة” و”ملاحدة” و”أعداء المسيح”، وزاد من تكريس هذه الصور النمطية الانتصار السريع للحروب الصليبية الأولى التي عززت الشعور بالانتصار وإلحاق الهزيمة بالعدو واحتقار الخصم المسلم(7).

أدى انتصار المسيحيين في حروبهم الصليبية ضد المسلمين إلى ترسيخ صور نمطية جديدة غير التي كانت موجودة من قبل، وذلك من خلال الحكايات الشفوية والخرافات التي كان يتم تناقلها بين الناس أثناء تصوير المواجهات المسلحة مع المسلمين والحديث عن مواصفات العدو البعيد الذي واجهه الفرسان والكهنة والرهبان خلال تلك الحروب. فقد زودت تلك الحكايات الخرافية المخيلة الأوروبية بطرائف عن الإسلام والشرق والنبي محمد صلى الله عليه وسلم، ووصلت تلك الصور الخيالية غير الصحيحة إلى المدارس والأديرة بعد أن تم وضعها في شكل مدرسي مناسب يشجع على قبولها، فأدى ذلك كله إلى نسج تصور شعبي عجيب ومروع عن الإسلام أثبت قدرته على البقاء وعلى مقاومة المعلومات الصحيحة أو نصف الصحيحة عن الإسلام التي جاءت فيما بعد(8).

علاوة على هذه الصور الناتجة عن الخيال والخرافات الشعبية التي كانت تغزو العالم الأوروبي عن الإسلام، كانت هناك صور أخرى لدى النخبة، وعلى رأسها رجال الكنيسة، ناتجة عن تفاسير أسطورية للكتاب المقدس. لقد كان الكتاب المقدس الأداة الفكرية الوحيدة في أيدي الأوروبيين أثناء العصور الوسطى، وقد أسهم في صياغة مفهوم الأوروبيين للعالم والتاريخ وللشعوب الأخرى، لذلك كانت شروحات رجال الدين لهذا الكتاب بمثابة حقائق علمية لا يرقى إليها الشك، وكانت تلك الشروحات تتضمن إشارات إلى الإسلام والمسلمين حسبما يرى رجال الكنيسة. فقد آمن المفسرون الأوائل لنصوص العهد القديم بأن السارازيين هم أعقاب هاجر زوجة النبي إبراهيم عليه السلام، كما هو وارد في سفر التكوين ضمن قصة إبراهيم، وكانت للنبي إبراهيم زوجتان هما سارة وهاجر، أنجبتا إسحاق وإسماعيل، وقال هؤلاء الشراح والمفسرون بأن أعقاب إسماعيل الحقيقيين هم السارازيون، أي العرب أو المسلمون، وكانت المعلومات الشحيحة التي لديهم عن العرب تؤيد بالنسبة إليهم هذه الحقائق، فقد طرد إسماعيل إلى الصحراء، وجاء العرب من الصحراء، وذكر العهد القديم عن إسماعيل أنه كان بدويا شرسا رافعا يده على الجميع، وكان العرب أيضا بدويين شرسين بالنسبة لهؤلاء المفسرين، وقد أصبح هذا التفسير بمثابة حقيقة مطلقة يتم تناقلها عبر الأجيال(9).

لقد حاول الأوروبيون المسيحيون تنزيل تلك التفاسير على حقيقة الإسلام، وجعلوا الكتاب المقدس مرجعا رئيسيا يقرأون به هذا الدين الجديد، ومن هنا بدأت إسقاطات مفاهيم المسيحية على الإسلام في البداية، فما دامت العقيدة المسيحية تقول بالتثليت فلا بد أن أي عقيدة أخرى تقول بنفس الأمر، لذلك لم يستطيعوا فهم قضية التوحيد في الإسلام، وهو ما يظهر في “ملحمة رولان” التي تحدثت عن ثلاثة آلهة يعبدها المسلمون هي: ترافاغان، ومحمد، وأبولو(10). وما دام أن المسيحيين يعبدون المسيح مؤسس الديانة المسيحية فلا بد أن المسلمين يعبدون النبي محمد(صلى الله عليه وسلم) لأنه في نظرهم ـ أي المسيحيين ـ هو مؤسس الإسلام، ومن هنا جاءت تسمية المسلمين بـ”ماحوميتانو” ***، أي عبدة محمد، قياسا على المسيحيين، نسبة إلى المسيح، الذي يؤلهه أتباع الديانة المسيحية.

شكلت قضية إنتاج صور نمطية سلبية عن الإسلام والمسلمين جزءا من الصراع الصليبي مع الشرق، فقد كانت تلك الصور بمثابة”سلاح إيديولوجي” بحسب المؤرخ الفرنسي جون فلوري، الذي يؤكد بأن تلك الصور السلبية عن الإسلام كان لا بد منها من أجل إقناع أتباع الكنيسة المسيحية بمحاربة المسلمين والدفاع عن الصليب وعن ديانة المسيح ونشرها على أتباع الديانات الأخرى في نفس الوقت، ولذلك لم يكتف منتجو هذه الصور ـ من رجال الدين والمثقفين ـ بإنتاج صور شعبية بناء على الخيال فحسب، بل عملوا على “إدراج الغزوات العربية ضمن التاريخ المقدس للمسيحية”، باعتبار تلك الغزوات انتقاما من الرب بسبب الخطايا التي اقترفها المسيحيون(11). وقد استغل رجال الكنيسة هذا التفسير الديني من أجل إنجاح فكرة الحج إلى القدس كوسيلة للتوبة والتكفير عن الذنوب، ولذلك انتشرت “رحلات الحج التكفيرية” خلال القرن الحادي عشر للميلاد، تاريخ بدء الحروب الصليبية الأولى(12).

لقد لعب إنتاج الصور السلبية عن الإسلام والمسلمين وظيفة توحيدية بالنسبة للمسيحية في القرون الوسطى، حيث عاشت المسيحية حالة من التمزق والصراعات الداخلية التي فككت الدول الأوروبية، لذا يلاحظ عدد من الباحثين بأن الحروب الصليبية مكنت لأول مرة من ظهر مفهوم”الأسرة المسيحية” كوحدة دينية واعية بذاتها، وهي تمثل ـ أي الحرب ـ لحظة جوهرية في تعبير الأسرة المسيحية عن إدراكها لذاتها في اختلاق العدو المسلم، لأن المسلمين مثلوا هنا”انعدام الإيمان” في مقابل الإيمان المسيحي”(13). إن خلق عدو مشترك بين جميع المسيحيين مكن الكنيسة من توجيه العنف الداخلي نحو الخارج، فقد أعلنت الكنيسة أنه”لا يجب لمسيحي قتل مسيحي آخر، لأن من يقتل مسيحيا يسفك لا ريب دم المسيح”، وأعلن البابا ليو التاسع في عام 1049 “سلام الرب”، الذي يشير إلى وقف المواجهة بين المسيحيين والقتال”خارج جسد المسيح”، كما أعلن البابوات مشروعية قتال السارازيين، أي المسلمين، ومن هنا يصح القول بأن الحروب الصليبية انبثقت”من روح السلام” وكانت”أوج حركة السلام”، لأن تحقيق السلم بين المسيحيين كان رهينا بالقتال ضد المسلمين(14).

لقد أدت ظروف الحرب الصليبية إلى إنتاج العديد من الصور السلبية عن الإسلام والمسلمين وعن النبي محمد صلى الله عليه وسلم. فالمسلمون في نظر المسيحيين كفار يجب قتالهم، وبرابرة، وأنجاس، ووثنيون، وأعداء المسيح الذين يتوجب على كل مسيحي صليبي أن يتحول إلى”جندي المسيح” لمقاتلتهم(15)، وهم عبدة الأصنام (16)، كما وُصف الإسلام بأنه دين شهواني من خلال مفهومه للجنة(17)، والأكثر من ذلك أن بعض رجال الدين المسيحيين الذين كانوا يؤمنون بمركزية المسيحية في العالم لم يفهموا الإسلام سوى على أنه واحدة من الهرطقات المسيحية التي انتشرت في القرون الوسطى على هامش الكنيسة وفي صراع معها(18)، واعتبر البعض الآخر أن انتشار الإسلام يؤذن بقرب عودة المسيح، وذلك في إطار الأفكار النشورية في أوروبا خلال العصور الوسطى(19). أما نبي الإسلام فقد نسجت عنه صور كثيرة، فقد صور على أنه ساحر كبير استطاع عن طريق السحر والخداع تحطيم الكنيسة في إفريقيا والشرق، وسمح بالدعارة والفسق لكسب المزيد من الأتباع، وصور أحيانا وكأنه كان كاردينالا للكنيسة الرومانية الكاثوليكية، وكانوا يطلقون عليه اسم”ماهوميت” أو”مومت” أو”موميتو”، وهو بعد أن قام بمحاولة فاشلة للجلوس على كرسي البابوية هرب إلى شبه الجزيرة العربية وأسس ديانته الجديدة بسبب عقدة الفشل(20). ويلاحظ هشام جعيط أن هناك رؤية فكرية قد تهيأت في القرن الثاني عشر وتوسعت في القرن الثالث عشر والرابع عشر لتمتد إلى القرن الثامن عشر وحتى العصر الاستعماري، وهي تنطلق من عداء واسع للنبي صلى الله عليه وسلم بسبب الاعتقاد المسيحي بأن نبوته كاذبة وبأنه كان السبب في توقف تطور الإنسانية باتجاه المسيحية(21).  مجمل القول أن التصورات الأوروبية عن الإسلام خلال العصور الوسطى لم تكن تصورات متوازنة من ناحية أولى، وذلك بسبب تعدد مصادر التلقي عن الإسلام، والتي يمكن تحديدها في ثلاثة مجالات هي: مجال التأويل للكتاب المقدس، ومجال الرؤيا الشعورية، ومجال المخيلة الشعبية(22). أما من الناحية الثانية فقد كان هناك جهل شبه مطلق بحقيقة الإسلام كدين، خصوصا في المرحلة التي تم فيها إطلاق الدعوة إلى الحرب الصليبية من طرف الكنيسة، إذ يذكر المؤرخون أن بطرس الناسك، الذي لعب دورا محوريا في الحرب الصليبية في فرنسا خلال القرن الثاني عشر، اشتكى من غياب السجالات الدينية ضد الإسلام خلال تلك الفترة من أجل الانتصار عليه من الناحية الفكرية وتحصين كهنة الدين المسيحي الذين كان يتخوف من تأثير الإسلام عليهم، حيث قال:”لقد انتابني السخط لغياب السجالات المناوئة للإسلام، لأن اللاتين لم يعرفوا سبب مثل هذا الضياع، ومن جراء هذا الجهل لم يكن بالإمكان أن يتحركوا مبدين أية مقاومة، إذ لم يكن هناك من رد على الإسلام لأنه لم يكن هناك ببساطة من يعرف شيئا عنه”(23).

الهوامش

  1. 1- عزيز سوريال عطية: الحروب الصليبية وتأثيرها على العلاقات بين الشرق والغرب. ترجمة: فيليب صابر سيف. مراجعة: أحمد. خاكيالطبعة الثانية 1990، دار الثقافة، القاهرة. ص 7.
  2. 2- قاسم عبده قاسم: ماهية الحروب الصليبية. ص 12.
  3. 3- سيد أمير علي: مختصر تاريخ العرب. نقله إلى العربية: عفيف البعلبكي. دار العلم للملايين، بيروتن الطبعة الرابعة 1981، ص ص: 281ـ 282.
  4. Jean Flori :Guerre sainte, jihad, croisade. Violence et religion dans le christianisme et l’islam. Editions du Seuil, 2002.p190 -4..
  5. 5- ويتلر: الهرطقة في المسيحية، تاريخ البدع والفرق الدينية المسيحية. ترجمة: جمال سالم. دار التنوير، بيروت. الطبعة الثانية، 2010. ص 109.
  6. Jean Flori.p 226 -6
  7. 7- نفسه، ص 262-263
  8. 8- جون فلوري, ص 226

 إدريس الكنبوري

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *