مكر الصورة... المغربي في الثقافة الإسبانية ـ الحلقة الثانية ـ

الرئيسية » علم وحضارة » مكر الصورة… المغربي في الثقافة الإسبانية ـ الحلقة الثانية ـ

المغربي في الثقافة الإسبانية

مفهوم حروب الاسترداد في اسبانيا ومقدماتها العقدية

تعرف”الموسوعة الكبرى” حروب الاسترداد(ريكونكيستا) بأنها”حروب استعادة الأراضي التي احتلها المسلمون في شبه الجزيرة الإيبيرية، التي دعمها الملوك المسيحيون ابتداء من سنة 750 إلى 1492″(1)، فهي إذن حروب استمرت طيلة قرابة سبعة قرون من فتح الأندلس إلى سقوط غرناطة، الذي كان تتويجا لسلسلة من الحروب بين المسلمين في جنوب اسبانيا والمسيحيين في شمالها.

غير أن مفهوم”حروب الاسترداد” لم يظهر في الكتابات التاريخية الإسبانية للإشارة إلى طبيعة الصراع بين المسلمين والمسيحيين في إسبانيا إلا في القرن الثامن عشر الميلادي، كإطار تفسيري لفهم مرحلة القرون الوسطى في شبه الجزيرة الإيبيرية، باعتبارها مسلسلا شاقا وطويلا لبناء”الذاتية” الإسبانية، واسترجاع ما يسميه المؤرخون الإسبان بـ”إسبانيا الضائعة”(هسبانيا)(2).

لقد حاول بعض المؤرخين الإسبان، وحتى الأوروبيين، التأكيد على أن حروب الاسترداد الإسبانية لم تكن حروب دينية عقدية، بل كانت حروبا سياسية من أجل التوسع والهيمنة فقط، فبالنسبة لهؤلاء ينبغي النظر إلى حروب الاسترداد على أنها حروب قومية ضد المسلمين باعتبارهم ينتمون إلى قومية مختلفة، هي هنا القومية العربية. وفي هذا الاعتقاد نوع من الخطأ لأن المسلمين في الأندلس لم يكونوا من العرب وحدهم، فقد كان هناك الآلاف من الإسبان المسيحيين الذين اعتنقوا الإسلام، وحصل نوع من الامتزاج العرقي بين العرب الفاتحين وبين سكان شبه الجزيرة الإيبيرية، حتى بات من الصعب التمييز بين العرب وغير العرب، إذ كان الإسلام وحده هو الذي يجمع بينهم.

لقد اعتبر المسيحيون الإسبان أن غزو/ فتح العرب لإسبانيا يشكل انعكاسا للعنة إلهية حلت بهم نتيجة عصيانهم وخروجهم عن جادة الدين الحق في نظرهم، مما دفع الرب إلى تسليط العرب عليهم وغزو بلادهم، وقد كان هذا التفسير العقدي للفتح العربي ممهدا للتفسير العقدي لحروب الاسترداد التي يقول المؤرخون إنها بدأت مباشرة بعد الفتح العربي عام 711 للميلاد، بل يرى المؤرخون الإسبان أن المرحلة الفاصلة ما بين الفتح العربي وما بين سقوط غرناطة وخروج المسلمين من الأندلس عام 1492 تشكل كلها مرحلة حروب الاسترداد وبناء الهوية الإسبانية المفقودة.  إن حروب الاسترداد لم تكن سوى عملا لاهوتيا ناتج عن خطط إلهية، ومن ثمة فإن هذه الحروب لن تنتهي إلا عندما يأذن الله بذلك، ويرى أحد رجال الدين المسيحيين الإسبان أن مكافحة المسيحيين للمسلمين والعرب ستنتهي فقط”حينما تقتضي عناية الرب طردهم دون رحمة من إسبانيا”(3).

وهناك تساؤلات عدة لدى المؤرخين حول ما إن كانت الحروب الصليبية التي انطلقت من أوروبا المسيحية نحو المشرق، وتحديدا نحو بيت المقدس، قد تأثرت بحروب الاسترداد في إسبانيا ضد المسلمين، أم أن هذه الحروب هي التي تأثرت بالحروب الصليبية في الشرق(4). إن الملاحظ أن فتح المسلمين لإسبانيا كان أول تصادم مباشر بين المسيحية في أوروبا والإسلام في القرن الثامن للميلاد، وانطلاقا من هذا المعطى التاريخي يرى البعض أن الصور النمطية الأولى عن المسلمين باعتبارهم غزاة ووحشيين وقساة قد دخلت إلى أوروبا بادئ الأمر انطلاقا من إسبانيا نفسها، قبل أن تخضع للتطور فيما بعد نتيجة تجربة الاحتكاك اللاحقة بين أوروبا والإسلام في القرون الوسطى، ويزعم أصحاب هذا الرأي بأن الحروب الصليبية الأولى ضد المشرق الإسلامي التي قادتها الكنيسة الرومانية كانت متأثرة بما يعيشه مسيحيو إسبانيا مع المسلمين في الأندلس، وما كتبه المؤرخون ورجال الدين الإسبان عن وقائع الفتح الإسلامي لبلادهم.

وتشكل حروب الاسترداد مفهوما  تاريخيا يعود إلى مرحلة قديمة، عندما وضعه الملوك الكاثوليك الإسبان والمثقفون الذين كانوا يحيطون بهم من أجل إضفاء الشرعية على حروب استعادة الأراضي التي كان يحتلها المسلمون، وخلال قرون لاحقة لم يكن لهذه الحروب طابع ديني، وإن كان لها طابع شبه مقدس، وكان الهدف منها هو إعادة توطين الكنيسة في تلك الأراضي باعتبارها في نظرهم أرض المسيحية(5)، غير أنه ابتداء من النصف الثاني من القرن الحادي عشر للميلاد وقع تحول كبير في مفهوم حروب الاسترداد، حيث دخلته عناصر إيديولوجية نابعة من الحروب الصليبية التي كانت قد بدأت في أوروبا، الأمر الذي أغنى هذا المفهوم بمضامين جديدة وأعطاه طابعا صليبيا(6)، فقد بدأ المسيحيون الإسبان يعتقدون بأن القتال لاستعادة الأندلس يشكل جزءا من الحرب الصليبية في أوروبا ابتداء من القرن الحادي عشر، حيث كانوا يريدون إدراج تاريخهم الديني الخاص ضمن التاريخ الديني العام لأوروبا، بعد قرنين من الانعزال عن الكنيسة الرومانية بسبب رغبة ملوك القوط في الاستقلال بأنفسهم.ويقول بعض المؤرخين إن المسيحيين الإسبان الذين كانوا يتوجهون إلى الشرق الإسلامي للقتال إلى جانب المسيحيين الأوروبيين في الحرب الصليبية، قبل تلك الفترة، كان ينظر إليهم في إسبانيا نظرة احتقار إثر رجوعهم من ساحات الحرب، ويرجع الباحثون ذلك إلى أن تأثير البابوية في اسبانيا كان ضعيفا، كما أن الإسبان كانوا يعتبرون أن البابا لا يمكنه منافسة السلطة الملكية في اسبانيا(7). ويوضح باحث إسباني أنه بعد استعادة طليطلة عام 1085 أصبحت القيم المسيحية التي يدافع عنها الملوك الكاثوليك الإسبان منتشرة في العالم المسيحي كله، وبرز الاهتمام بحروب الاسترداد الإسبانية لدى روما المسيحية، وقد وجه أوربان الثاني بعد استعادة طليطلة إلى المسيحية رسالة إلى ملك إسبانيا يهنئه على ذلك العمل، ويعترف فيها بأن العالم المسيحي أصبحت تحكمه سلطتان، الروحية والزمنية، الروحية التي تقودها الكنيسة ورجال الدين، والمدنية التي يقودها الملوك الكاثوليك الإسبان، وكان ذلك بمثابة أول اعتراف للكنيسة بسلطة الملوك الإسبان بحيث أصبح لقبهم بعد ذلك هو الملوك الكاثوليك، تشريفا لهم بسبب الحروب التي يخوضونها ضد”الكفار” أي المسلمين(8).

وابتداء من القرن الحادي عشر سعت روما إلى بسط نفوذها الروحي في اسبانيا عن طريق تحويل حرب الاسترداد إلى حرب صليبية تتم تحت السلطة الروحية للبابا، وقد سعى بعض المثقفين الإسبان منذ بداية حروب الاسترداد إلى جعلها تحت مظلة الحرب الصليبية حتى لا تبقى اسبانيا على هامش أوروبا. والملاحظ أن هذه المسألة أثيرت خلال بدايات القرن العشرين لدى ظهور مدارس تاريخية تحاول البحث عن جذور الهوية الإسبانية، وربطها بالمسيحية ومحو أي صلة لها بالهوية الإسلامية للأندلس طوال ثمانية قرون، فقد كان الهدف من ربط حروب الاسترداد بالحروب الصليبية هو صهر تاريخ إسبانيا ضمن التاريخ الأوروبي العام ومحو أي حديث عن خصوصية التجربة الإسبانية في علاقتها بالإسلام.

وفي الحقيقة، مثلت إسبانيا بالنسبة لأوروبا المسيحية في القرون الوسطى “حالة نموذجية”للعلاقة الصدامية بين الإسلام والمسيحية، وخلال الفترة ما بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر شكلت إسبانيا “نقطة جذب” بالنسبة للكهنة والعمال والمحاربين القادمين من أوروبا خلال العصور الوسطى، وأحد المناطق المفضلة لـ”انتشار الغرب”، كما كانت رمزا لانتصار المسيحية الرومانية على الإسلام، وشكلت مختبرا لمفاهيم “الحرب المقدسة” و”الحرب الصليبية” بالنسبة لمسيحية أوروبا(9)، ويرى بعض المؤرخين ـ ومنهم الدكتور قاسم عبده قاسم ـ أن الحملة الكاثوليكية ضد مسلمي الأندلس شكلت ما يمكن وصفه بـ”السابقة الصليبية” على المستوى الأوروبي، بيد أن غياب الدور البابوي النشط  في هذه الحروب ينفي عنها صفة”الحملة الصليبة” الكاملة(10). ويوضح عبده قاسم أن مفهوم الحج التكفيري، الذي بدأت الكنيسة المسيحية تحث عليها أتباعها ابتداء من القرنين السابع والثامن الميلاديين وتحول إلى”مفتاح” لتفسير ميلاد الحروب الصليبية، قد استخدم لأول مرة في شبه الجزيرة الأيبيرية كعنصر محرض في حروب الاسترداد ضد المسلمين(11).

ولقد أدت حروب الاسترداد في اسبانيا على المستوى الداخلي نفس الدور الذي أدته الحروب الصليبية على المستوى الأوروبي، فقد وحدت صفوف الإسبان والمناطق التي كانت متناحرة من قبل، وأصبحت تلك الحروب رمزا لتحقيق الوحدة الدينية والثقافية والوطنية لاسبانيا، لأن الحرب ضد المسلمين صورت عقديا على أنها حرب لخلاص الكنيسة من الكفار والتصالح مع الذات المسيحية(12).

وقد وجدت الكنيسة الرومانية أنه من الأفضل توجيه حروب الاسترداد تلك وجهة صليبية عامة تهم كافة المسيحيين في أوروبا، ومنحتها طابع القداسة بعدما كانت حروبا للسيطرة على الأراضي وتثبيت حكم الملوك الإسبان، وذلك قبل سنوات عدة من دعوة البابا أوربان الثاني الشهيرة إلى الحروب الصليبية عام 1095(13)، فقد كان هدف البابوية هو أن لا تظل إسبانيا بعيدة عن سلطتها الروحية، ولذلك سعت أولا إلى الضغط على الملوك الإسبان لإخضاعهم لنفوذ الكنيسة الرومانية، وثانيا إلى دعوة المسيحيين المؤمنين إلى التوجه إلى إسبانيا للمشاركة في العمليات العسكرية ضد المسلمين(14).

هوامش

  • 1- La Gran Enciclopedia. 2005. P 8438. Reconquista.
  • 2- Miguel Angel Ladero Quesada :La « Reconquête », clef de voûte du Moyen Âge espagnol. Actes des congrès de la Société des historiens médiévistes de l’enseignement supérieur public.  Année 2002.Volume 33.Numéro 33 .pp : 23-45
  • 3- فيسنت كانتاريو: حرب الاستعادة الإسبانية هل هي حروب كلونية مقدسة ضد الإسلام. ترجمة:الدكتور أبو بكر باقادر. مجلة الاجتهاد اللبنانية. العدد 29. السنة السابعة. خريف 1995. ص 64-65.
  • 4- مثل هذه الأسئلة يطرحها جون فلوري في كتابه المشار إليه: الحرب المقدسة، الجهاد، والحرب الصليبية.
  • 5- Philippe Josserand : Croisades y reconquete dans le royaume de Castille au XIIe siecle. Eléments pour une réflexion. Actes des congrès de la Société des historiens médiévistes de l’enseignement supérieur public .Année  2002 .Volume 33. Numéro 33 .p 295.
  • 6- نفس المرجع. ص 296.
  • 7- نفسه، ص 76.
  • 8- Carlos de Ayala Martínez :Las Cruzadas.

    Silex ediciones.2004. p 85.

  • 9- Patrick honriet :Y a-t-il une hagiographie de la reconquête hispanique (XI-XIII siècle ) ?.In :L’expansion occidentale, Xie-Xve siècles : formes et conséquences : XXXIIIe … Par Société des historiens médiévistes de l’enseignement supérieur public. Formes et conséquences, XXXIIIe congrès de la SHMES (Madrid, Casa Velazquez, 23-26 mai 2002).
  • 10- ماهية الحروب الصليبية. مذكور سابقا. ص 43.
  • 11- نفسه.
  • 12- Philippe Josserand. Ibidem .pp :75-85.
  • 13- Jean flori. Ibidem. 209-210.
  • 14- نفسه. ص 213.
  • ادريس الكنبوري

 

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *