استئنافا لما طرحناه في الحلقة الأخيرة حول “المجتمع المدني: من المعيارية إلى الموضوعية التاريخية”، يبدو من المفيد أن نبرز كيف أن الثورة الصناعية قد أسهمت في ميلاد مجتمع طالما اعتبره أوغيست كونت نموذجا معيارا لكل الأنماط المجتمعية الممكنة في مستقبل الحضارة الإنسانية. وقد اقترن تعميم هذا النموذج لديه بتعميم الفكر العلمي الناسخ كليا حسب زعمه “للفكر الغيبي والتأملي العقيم”. ومع أننا لسنا في معرض التدليل على أن عملية النسخ المدعاة لا أساس علمي لها؛ لأن حقائق التاريخ الموضوعي التي أعقبت مرحلة النزعة الوضعية والعلموية المادية قد تكفلت بذلك.
إلا أن ذلك لا ينفي أن المجتمع الصناعي الحديث قد أطلق قوى جديدة حلت محل جانب كبير من القوى القديمة في قيادة المجتمعات الغربية وتحديد وجهتها؛ كما أن الثورة الصناعية الثانية قد أحدثت خللا سوسيولوجيا بنيويا عميقا سماه إميل دوركاين أنومي ( Anomie) ؛ وهي حالة أمسى معها الوجود الاجتماعي مضطربا؛ حالة تزعزع بفعلها النظام العام ولم يعد يعمل تلقائيا وبسلاسة. وفي هذا المعنى يقول كونت: “إن الحياة الصناعية لا تفرز سوى طبقات منفصمة العرى، لانعدام وازع عام ينتظم الجميع ويمنع الفتن. وهذا مشكل الحضارة الحديثة، وإن الحل الصحيح لا يكون إلا على أساس من الوفاق المدني”(نظام السياسة الوضعية: ص364).
هكذا أمكن الحديث عن أزمة مجتمع مدني صناعي انصب عليها تفكير علماء الاجتماع بغرض تحليلها وفهمها وتجاوزها، وتقديم معرفة “علمية” عن هذا المجتمع لكي يتسنى ضبطه وتنظيمه.
ومع أن مفهوم المجتمع لشدة رسوخه أمسى واضحا أو يكاد؛ فإن موضع الغموض في صفته “المدني” ظل قائما؛ لذا نجد المدني يوظف في أربع ثنائيات رئيسية متباينة: مدني/ ديني، مدني/سياسي، مدني/ عسكري/ مدني/ طبيعي. ومع أن هذه الثنائيات لا تفيد التنابذ والصراع بالضرورة بقدر ما تحيل على التواشج والتكامل الوظيفي المحكوم بأشكال من الفصل والتمايز الإجرائي، إلا أنها كثيرا ما طرحت مسألة التنازع حول الصلاحيات. وهو تنازع يتعين تكييفه تبعا لاختلاف السياقات والتجارب والمنظومات، والأطر المرجعية الحاكمة لنشأة المجتمعات وتطورها عبر التاريخ.
وفي هذا الإطار نجد أن هذا المفهوم كما شاع في علمي الاجتماع السياسي والتنمية السياسية من خلال مفهوم “الثقافة المدنية” بوجه خاص، فقد استخدم كصفة في التراث الإسلامي كما لدى الفرابي وابن خلدون..من خلال التأكيد على الطبيعة المدنية للمجتمعات الإنسانية من جهة، وفي هذا السياق يشير ابن خلدون إلى أن الإنسان مدني واجتماعي بطبعه، وكذلك من خلال التأكيد على الطبيعة المدنية للإسلام نفسه؛ بحيث لا يتحقق كمال إسلام المرء إلا في بيئة مدنية حضرية.. وعلى نظام الحكم فيه، القائم على التعاقد؛ إيجابا وقبولا..
وبالمقابل فقد تنازعت المفهوم في السياق الحضاري الغربي تصورات ورؤى إيديولوجية ومعرفية مختلفة ومدارس فكرية متنوعة عبرت عنها نظريات العقد الاجتماعي وفلسفات هيجل وكارل ماركس وغرامشي وتوكفيل..
إن مفهوم المجتمع المدني يفترض مجتمعا ويفترض دولة ويفترض علاقة قائمة بينهما، كما يفترض إمكانية النظر إلى كل منهما في استقلالية نسبية عن الآخر. كما أن الشرط التاريخي الضروري للبدء في بلورة فكرة المجتمع المدني بما هي علاقة بين مواطن ومجتمع ودولة يتمثل في تميز المجتمع عن الدولة. لكن كما أن المجتمع المدني لا ينشأ إلا بالتمييز الإجرائي بين المجتمع والدولة، فإن الدولة، بما هي بناء مؤسسي وتجريد قائم بذاته، لا كينونة لها ولا وجود إلا بوجود المجتمع..
ذلك أن المجتمع المدني يحيل في نهاية التحليل إلى جماع التنظيمات الاقتصادية والثقافية والدينية التي تغطي ساحة النشاط الحر، غير المنظم بنظام واحد وعام بما يسمح لهذا النشاط بالنمو والتنافس والتجدد والابداع. أو قل هو جماع “التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة، لتحقيق مصالح أفرادها، ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح والإدارة السلمية للتنوع والاختلاف”..