علم المستقبل وأهمية الدراسات الاستشرافية (2/2)

الرئيسية » علم وحضارة » علم المستقبل وأهمية الدراسات الاستشرافية (2/2)

علم المستقبل وأهمية الدراسات الاستشرافية

نستخلص مما سبق أن الدراسة الاستشرافية ليست بالأمر الهين، فحدودها لا ترسم عند دراسة الماضي والحاضر، بل تتسع لتشمل ” إمكانية استكشاف نوعية وحجم التغيرات الأساسية الواجب حدوثها في مجتمع ما، حتى يتشكل مستقبله على نحو معين منشود. ولهذا فان للدراسة المستقبلية عدة مناهج وأدوات بحثيه، وذلك حسب تعدد المستويات والقطاعات التي تدرسها، فهناك دراسات تهتم بجوانب قطاعية معينة من الظواهر الكلية في إطارها العالمي، كالدراسات الخاصة بالغذاء أو السكان مثلاً، وأخرى تهتم بدراسة الظواهر الكلية في علاقاتها الشاملة على المستوى العالمي. فهنا نجد أن المنهج المتبع في هذه الدراسات يتأثر بالمناهج المتبعة عادة في الدراسات الكلية إذا تعلق الأمر بدراسة الظواهر الكلية… وهكذا. كما أن هناك دراسة مستقبلية ذات طابع اقتصادي أو تقني، وأخرى تهتم بالجوانب الاجتماعية والسياسية. وتتأثر الأولى بالمناهج والأدوات المتبعة في دراسة العلوم البحثية، بينما تتأثر الثانية بالمناهج المتبعة في دراسة العلوم الإنسانية. وبناءاً على هذا فان الدراسات المستقبلية تتعدد مناهجها وأدواتها. بل أن هذه المناهج والأدوات قد تتعدد حتى في الدراسة الواحدة، وهذا يفرضه أحياناً الحاجة إلى زيادة درجة الثقة في نتائج التقديرات الخاصة بالمستقبل. ومع هذا يمكن أن نميز بين مجموعتين أساسيتين من الطرق والأدوات البحثية في الدراسات المستقبلية تتفرع عن كل منها أدواتها: 

المجموعة الأولى: هي الطرق الاستدلالية، التي ترتكز على الاستنتاج الاحتمالي وتتمثل في جميع عمليات التنبؤ، وهذه تسمى طرق التنبؤ وأدواتها الأساسية النماذج.

المجموعة الثانية: هي الطرق الحدسية، وهذه تركز على استخلاص النتائج من عمليات الآثار الذهنية brain storming التي تتمثل في عملية بناء المشاهد “السيناريوهات Scenarios ” وتسمى الطرق الحدسية.

ولكل من هاتين الطريقتين مزايا وعيوب، وكفاءتهما ترتبط إلى حد بعيد بمدى كفاءة أدواتهما، وبمدى وفرة ودقة وتفصيل المعلومات المستخدمة فيهما. فطريقة التنبؤ، وأدواتها النماذج، لا توفر لنا فهماً واضحاً ودقيقاً لكثير من الظواهر الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية، إذ أن ما نحتاج إليه من الدراسات المستقبلية ليس توصيف الحالة المتوقعة لتطور الحاضر وحسب، بل نحتاج لمعرفة تفصيلية أكثر تساعدنا على التخطيط واتخاذ القرارات اللازمة لمواجهة المستقبل، كمعرفة آثار هذه الحالة المتوقعة وردود أفعالها. وهذا ما تقدمه الطرق الحدسية مثلاً. لكن هذه تفتقر للدقة المطلوبة، وتعاني من العمومية والشمول.

إن الدراسة الاستشرافية تستند على المشاهد في توضيح ما توصلت إليه مــن نتائج خلال الدراسة، وترسم فيها صور المستقبل المحتمل وشروط حدوثه. بهذا المعنى فإن المشهد هو من المكونات الأساسية في الدراسة الاستشرافية. والمشهد أو السيناريو Scenario هو طريقة للتفكير، تجمع بين أسلوبين من التحليل: الأول هو التحليل التاريخي، وذلك لمعرفة القوانين المؤثرة في تطور الظاهرة، وتأثيرها في اتجاهات ذلك التطور، أما الثاني فهو أسلوب التحليل البنائي، وهذا يساعد في عملية بناء المشهد، وتوضيح تحول الظاهرة من حالة زمنية معينة إلى حالة أخرى، كما يوضح طبيعة العلاقة بين متغيرات الظاهرة وتأثيراتها المختلفة، والعلاقة بين تلك المتغيرات والبيئة المحيطة بها. وبهذا المعنى فإن المشهد هو دراسة لخصائص وأوضاع وحالات ظاهرة ما، في فترات زمنية مختلفة، وطبيعة الانتقال بين تلك الحالات والأوضاع. 

وبهذا المعنى فإن المشهد عبارة عن “تصور ذهني وفكري لمجموعة من الحالات المتوقعة أو الممكنة لمسيرة ظاهرة ما، وهو ليس تعبيراً عن أهواء مؤلفة، وإنمــا وصف لمسار محتمل، بغض النظر عن رغبتنا فيه أي أنه افتراض نرسم فيه صورة معينة توضح لنا المسار الذي ستتخذه ظاهرة ما في المستقبل، وهذه الافتراضات متباينة في اتجاهاتها.

وتعبر المشاهد عادة عن ثلاثة اتجاهات للمجتمع أو للظاهرة المدروسة، وهذه الاتجاهات هي الاتجاه الإسقاطي، وهذا ينطلق من افتراض استمرار الأوضاع الراهنة للظاهرة، وننبه هنا إلى أن هذا لا يعني أن صورة المستقبل في هذا المشهد ستكون مطابقة تماماً للحاضر، وإنما يعني أن هناك تغيرات طفيفة قد تحدث، أو أن الأوضاع الحالية ستتردى أكثر مما هي عليه، ولكن لن يكون هناك تغيرات جوهرية في شكل الظاهرة. والاتجاه الإصلاحي ينطلق من مفهوم ترشيد أو إصلاح الأوضاع 
الراهنة، فصورة المستقبل التي يرسمها المشهد، بناءاً على هذا الاتجاه، تبين أن هناك محاولات تعمل من أجل تغيير توجيه مسار التطور نحو الأفضل. أما الاتجاه الثالث فهو الاتجاه التحويلي، وصورة المستقبل هنا مختلفة تماماً عن سابقاتها، إذ تعبر في هذا المشهد عن شكل مختلف ومغاير للظاهرة، تم بناءاً على تحولات جوهرية، مست جوانب أساسية في تشكيلها، كما تعبر عن أنماط جديدة من العلاقات والتفاعلات حدثت نتيجة لعملية التحويل تلك( ). وفي المشهد توضع الصورة تحت شروط معينة، وبمعنى آخر فإن المشهد ينطلق من فكرة “ماذا … لو”، حيث يتم سرد الأحداث المفترضة في تعاقب يبين المسببات والآثار، ويحاول الإجابة على تساؤل: كيف يمكن أن تحدث هذه الحالة الافتراضية؟ وما هو المستقبل البديل عند كل خطوة؟ وعند هذه النقطــــة يتم التحويل إلى مشهد آخر لبناء مشهد مستقبلي آخر. 
أي أن المشهد لا يقوم فقط على الافتراضات التي يطبقها الباحث، بل أنه يعالج ما يترتب عليها من آثار، نتيجة التعامل مع المتغيرات المستقبلية الأخرى، لا سيما المتغيرات الخارجية.

من هذا المنطلق، فإن عدد صور المستقبل يمكن أن يكون لا نهائياً، ما لم توضع قاعدة، يتم بموجبها انتقاء عدد محدد، له دلالة بالنسبة إلى الأوضاع الدولية والنظام الدولي المسيطر على قضايا العالم. ولابد، عند تقويم البدائل الممكنة، من فهم شروط كل بديل وآلياته، ومدى الإرادة والقدرة لدى القوى الفاعلة دولياً، فإن تحقق أحد هذه البدائل الممكنة سيكون أكثر احتمالاً من الآخر. وكل بديل من البدائل المستقبلية الممكنة ينطوي على ثمن أو تكلفة، كما ينطوي على نتائج ومردودات. لذلك فإن تحليل هذه البدائل بشروطها وآلياتها وتكلفتها ونتائجها من شأنه توسيع الإطارات المرجعية والأفاق المستقبلية للوضع الدولي.

وهناك عدة خصائص مميزة للمشاهد أو السيناريوهــات المستقبلية تؤثــر في عملية تقويمها وكفاءتها نلخصها في الآتي:

  1. 1– أن المشهد ينطلق من الحالة الراهنة للظاهرة، أي الحالة الأولية، ثم يتجه لتوضيح العوامل والمتغيرات التي تدخل على هذه الحالة، وتؤدي إلى تغيرها في المستقبل، مما يؤدي إلى ظهور شكل حالة جديدة مختلفة، وهذا الافتراض، أي استقرار الحالة الأولية ينفي قوانين الحركة، وهي قوانين موضوعية وأساسية لا بالنسبة للطبيعة وحسب، ولكن للإنسان والمجتمع أيضاً. 
  2. 2– يتم التركيز في بناء المشاهد على توضيح العوامل والمتغيرات المؤثرة في حالات الظاهرة ومسارات الانتقال، من حالة إلى أخرى، دون الاهتمام بآليات الانتقال، أي كيفية حدوث التغيرات والتفاعلات التي أدت إليها، فذلك من شأنه أن يؤثر في النتائج. 
  3. 3 – أن معظم المشاهد تتسم بالشمول، فعلى الرغم من أن محور اهتمامها يكاد يكون المتغيرات الاقتصادية البيئية كمتغير رئيسي، فإنها استوعبت البيئة أيضاً كمتغير رئيسي، واتسعت لتشمل الجوانب الاجتماعية و القيمية.
  4. 4– أن عدم اتساق التفاعلات والتداعيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الداخلية منها والخارجية، في عملية تركيب المشهد تؤثر في سلامة بنائـــه، وبالتالي في توضيح الصورة المستقبلية التي يقدمها.

وللدراسة المستقبلية عدة مزايا:

  1. 1– الدراسة المستقبلية تعالج عدداً كبيراً من المتغيرات والعوامل التي تؤثر على الظاهرة موضوع البحث. مما يتيح لنا معرفة كافية بالظاهرة في كل مراحل تطورها وتأثيراتها، كما يساعدنا على تحليل العوامل والمؤثرات المحيطة بالظاهرة وتأثيراتها المختلفة في كل مرحلة من مراحل تطورها. 
  2. 2– توجه انتباهنا إلى مواقع الضعف أو الخطر في الظاهرة المدروسة والتي تظهر من خلال الدراسة وإعداد المشاهد. 
  3. 3– تفيد في الاستعداد والإعداد لما يلزم لمواجهة أي مستجدات أو “متطلبات” المرحلة المستقبلية من الظاهرة.
  4. 4– على الرغم من أن نتائج الدراسة المستقبلية تظل احتمالية، إلا أن المقصود من هذه الدراسات ليس الكم أو التفصيل، وإنما الاتجاه أو المسار الذي يمكن أن تتخذه الظاهرة في المستقبل، والذي توضحه هذه الدراسات المستقبلية، إذ أن هذه الدراسات تتولى الإجابة عن الاستفسار حول ما هي المسارات المختلفة للتغير التي تفضي إليها الأوضاع الحالية.
  5. 5– توفر الدراسة المستقبلية المعلومات الضرورية التي تخدم واضعي البرامج والاستراتيجيات ومتخذي القرار في الدولة، وهي بهذا المعنى أمر ضروري للمجتمعات المتقدمة والمتخلفة على حد سواء.

وعلى الرغم من هذه المزايا للدراسات المستقبليــة إلا أن هناك صعوبات عديدة تكتنفها نجملها في الآتي:

  1. 1– يستخدم الباحث في الدراسات المستقبلية عدة مشاهد افتراضية، تساعده في الوصول إلى الحالة المستقبلية للظاهرة التي يدرسها. ويسعى الباحث من خلال هذه المشاهد للحصول على نتائج علمية دقيقة لتطور الظاهرة. وهذا يستلزم أحياناً استخدام الأساليب والنماذج الرياضية لقياس بعض الظواهر للوصول إلى أعلى درجة ممكنة من الضبط العلمي. وهنا يواجه الباحث إشكالية صعوبة قياس حركة بعض مكونات أو عناصر الظواهر الاجتماعية.
  2. 2– الدراسة المستقبلية تعالج عدداً كبيراً من المتغيرات والعوامل التي يظن الباحث أنها تؤثر على الظاهرة موضوع البحث. وهنا يواجه الباحث صعوبة انتقاء العوامل الأكثر تأثيراً على الظاهرة في المستقبل، كما يؤدي هذا إلى التركيز على بعض العوامل على اعتبار أنها مهمة، وإهمال أخرى على اعتبار أنها غير مهمة، مما قد يؤثر على مصداقية بعض النتائج، إذا لم تتم معالجة تفاعل تلك العوامل بدقة وموضوعية.
  3. 3– إن دراسة المستقبل لا تتم فقط بدراسة الحاضر بكل أوضاعه ومتغيراته وتداخلاته، بل هي تتصل كذلك بدراسة الماضي بكل عبره ومتغيراته. فاستشراف آفاق المستقبل لا يعني نسيان حلقات الماضي والقفز على معطيات الحاضر. وعليه فمن الضروري العودة لدراسة الماضي. وهذا يتطلب قدراً كبيراً من المعلومات والجهــد. وأحياناً يتيه الباحث في هذا الكم الهائل من المعلومات. كما يصعب عليه تحديد أي هذه المعلومات هو الأكثر تأثيراً في الظاهرة من غيره، وأي من تلك المتغيرات لا يزال تأثيره فعالاً على الظاهرة في الحاضر.
  4. 4– أن سرعة تغير الأوضاع السياسية والاقتصادية والعسكرية، في ظل التقدم التكنولوجي الحالي، يجعل من الصعب على الباحث “المستقبلي” أن يحقق درجة عالية من الدقة حول مستقبل الظاهرة المدروسة.
  5. 5– أن استشراف أي وضع قائم في المجتمع “اقتصادي أو سياسي أو اجتماعي، يتطلب الإلمام بجملة المتغيرات والتشابكات والتفاعلات الخاصة بعملية الاستشراف، بين ذلك الوضع القائم المقصود استشراف مستقبله، وبين الأوضاع القائمة الأخرى. وهذا من بين الأمور الشاقة التي يواجهها الباحث عند قيامه بالدراسة الاستشرافية، فكما أن أي استشراف للمستقبل ينطلق من تشخيص الواقع، فإن نقطة البداية الطبيعية تتمثل في تحديد سمات المرحلة الراهنة”.

وفى الوقت الحاضر ما أحوجنا نحن العرب في مؤسساتنا العلمية، وفى مراكز صنع القرار، أن نستخدم هذا المنهج في دراساتنا وأبحاثنا، حتى نستطيع أن نحدد مساراتنا واتجهاتنا، وحتى نتقى قدر ما نستطيع سلبيات ما نتعرض إليه في حاضرنا.

نزيهة أحمد التركي (موقع الحوار المتمدن)

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *