كثير ما سمعنا عن حوادث تقع لأشخاص في عمر الشباب أو في سن الشيخوخة كأب أصيب بجلطة دماغية أفقدته كامل قواه ورجل أصيب بنوبة قلبية عاد يمارس رياضة المشي وامرأة لا يمكنها الوقوف متوازنة، تتناول مجلة لو بوان الفرنسية في عددها الأخير الاكتشافات العشرة الأخيرة التي توصل إليها العلم في موضوع قدرات الدماغ الفائقة.
فوفقاً لخبير الأعصاب نورمان دوادج يمكن للدماغ أن يتغير ويتحول من تلقاء نفسه، هذا الاكتشاف الجديد الذي يتعلق بالمرونة العصبية للدماغ يمكنه أن يحدث انقلاباً في مجال علم الأعصاب لأنه يكشف عن قدراته المذهلة القادرة على تعويض الإعاقات والإصابات، والإصلاحات الذاتية والتطوير والتحسين، ليس فقط خلال مرحلة الطفولة كما هو معروف منذ فترة طويلة ولكن في السن المتقدمة من عمر الإنسان أيضاً.
الواقع أننا من خلال علم الأعصاب نعلم أن دماغ الإنسان يفقد من 10-50 ألف خلية عصبية يومياً بدءاً من سنه المبكرة، وهو ما يفسر لنا أسباب المشكلات المتعلقة بالإدراك التي تظهر على الشخص في سن الشيخوخة، ولكن القصة لا تنتهي عند هذا الحد، والحمد لله فأحدث الاكتشافات في هذا المجال تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الدماغ البشري قادر على التكيف مع الواقع الجديد للشخص المصاب، فإذا كانت مناطق متعددة في الدماغ تتحكم في وظائف مختلفة (مثل عملية نطق اللغة التي تحدث في الفص الجبهي) فإن ما تستطيع عمله الخلايا العصبية هو أكثر تنوعاً مما كان يعتقد حتى وقت قريب، وهذا ما يسمى بالمرونة العصبية التي تعد ميزة مشتركة بين جميع أنسجة الدماغ وحتى في جميع أنحاء الجهاز العصبي المركزي.
والمرونة العصبية هي التي تجعل الخلايا العصبية التي تستخدم عادة للرؤية تظهر مهام أخرى عند فاقدي البصر كتميزهم مثلاً بقدرات سمعية أفضل من الأشخاص العاديين، ويصف الدكتور نورمان دوادج الأمر بالقول إنه تجري في الدماغ “حرب أعصاب” مستمرة وكلما كانت الأنسجة متطورة كلما عملت على زيادة الاتصالات الضرورية لتحسن أداء وظيفة معينة، ولكن بمجرد أن نتوقف عن ممارسة النشاط العقلي، لا ننسى فقط ما تعلمناه، ولكن الفضاء العقلي يستبدل بواحدة أو بأكثر من الأنشطة البديلة، وهذا هو التمثيل الرائع لمبدأ “إن لم تستخدمه فسوف تخسره”، ويرى الباحثون أنه من خلال تعلم كيفية عمل المرونة العصبية، يمكننا الآن البدء بعلاج جميع أنواع المشكلات كعسر القراءة، والصمم أو الشلل، وكذلك الهواجس وحالات الإدمان، ويعتقد هؤلاء أن العديد من الآثار المترتبة على الاكتشافات الجديدة لقدرات الدماغ تدخل في تنظيم حياتنا بشكل عام، حتى الحياة العاطفية والتربية والتعليم على وجه الخصوص.
ويشير الدكتور نورمان دوادج إلى أن الإنسان سيصل يوماً ما على سبيل المثال لإدارة جهاز الكمبيوتر بشكل كامل عن طريق الفكر ! هذا الأمر يبدو بالنسبة إلى معظمنا يوتوبيا، ومع ذلك، ولأن الخلايا العصبية في دماغنا تتلف مع الوقت إلا أنه يتوجب علينا حسب الدكتور دوادج استغلال الخلايا المتبقية بما يؤخر قدر الإمكان تلفها، فالاكتشافات العشرة الأخيرة في علم الأعصاب تكشف، حسب رأيه، قدرات غير عادية في دماغنا، بل يصل إلى اقتناع بأن مرونة الدماغ اللانهائية تجعله قادراً على إصلاح نفسه بنفسه الأمر الذي يفتح آفاقاً كبيرة في مجال طب الدماغ والأعصاب، والغوص في قلب هذه المعجزة الرائعة التي وهبها لنا الخالق.
1- يمتلك حاسة سادسة
اكتشف الباحثون أن الإنسان لديه حاسة سادسة بالفعل، فإذا كنت تعتقد أن الدماغ يجعلنا نرى من خلال العيون فقط فأنت مخطىء! فإدراك الدماغ لمفهوم الجاذبية والحركة وتمكنه من إدراك مفهوم الفضاء يعتبر بحد ذاته حاسة سادسة مثلها مثل السمع والبصر . ونعلم أيضاً أن نظام القلب والأوعية الدموية يعوض باستمرار آثار الجاذبية من خلال رفع الدم إلى الرأس . والتجارب التي يجريها رواد الفضاء ضرورية لفهم تأثير الجاذبية في الدماغ البشري، وكيفية استعادة قدرته على التحكم في آليات الحركة والتفكير بعد بقاء الرواد لفترة طويلة في الفضاء والعودة إلى الأرض، حتى إن فقدان مفهوم الجاذبية من الناحية الفيزيائية لا يحدث كلياً حتى ولو تعرض الدماغ لتلف ما وتدمير في خلاياه لأن نقل خلايا سليمة لشخص مصاب بإعاقة جسدية يمكن من خلال ما يسمى بالذكريات النفسية، أن يعاد تذكرها.
2- الدماغ جهاز محاكاة
يقول خبير الأعصاب بيير ماري ليدو إن الدماغ يقضي معظم وقته في الكذب على نفسه من خلال مسح كل المجالات الممكنة وبالتالي اتخاذ القرار الذي يبدو أنه أكثر عدلاً، ولكن في بعض الأحيان يخطىء حسب الباحث دانييل سيمونز من جامعة واشنطن، لأن الدماغ عبارة عن آلة محاكاة جيدة لإجراء عمليات المراهنات والاحتمالات فعندما نفعل أمراً ما يكون الدماغ قرر ما سيتم اتخاذه قبل ثانية أو ثانيتين من هذا الأمر فعندما يهم شخص بأخذ كأس في يده فإن إشارة تظهر قبل 300 مليثانية من قول الشخص “أنا عطشان وأحتاج إلى هذه الكأس”.
3- الدماغ واللاوعي
هل كان ديكارت مخطئاً في قوله “أنا أفكر، إذاً أنا موجود”؟ أظهر علماء الأعصاب أن ما يقرب من ،80 من أنشطة الدماغ في وقت ما تحدث في حالة اللاوعي، على حد وصف ليونيل نقاش خبير علم الأعصاب الإدراكية في معهد الدماغ والنخاع الشوكي، فعندما يفرمل الإنسان أمام عائق ما وهو يقود سيارته يكون ذلك في حالة اللاوعي وإلا فإنه سيصدم هذا العائق لو أخذ يفكر بالصدم أم لا! ما يعني أن محاولة الإنسان ليكون في حالة الوعي تحتاج إلى وقت، وهذا ما أثبتته آخر التجارب على الدماغ فعند سماع الشخص كلمة ما فإن الدماغ يكون صورة لا واعية خلال العُشرين الأولين من الثانية ولكن في العُشر الثالث من الثانية فإن تضخيم المناطق الخلفية التي تعالج المعلومة تتحول إلى المناطق الأمامية وهنا يحدث اتخاذ القرار.
4 – الأرق
وجد الباحثون أنه عندما تنام الفئران فإن منطقة الحُصيْن (ارتفاع مطول دائري يظهر في القرن الصدغي للبطين الجانبي للدماغ (قرن آمون) وهي بنية حاسمة من أجل اختزان الذكريات على المدى القصير والتمثيل الحيزي للبيئة المادية) تعيد الأحداث التي وقعت معها وبالتالي فإن الدماغ لا يكتفي ببساطة بتكديس المعلومات بل إنه يتوقع ما يمكن أن يقع فعندما ننام، يقوم الدماغ بتقييم الافتراضات الخاصة بوضع ما والتي يمكن أن تحدث في المستقبل ما يعني أنه يسعى باستمرار لاستعادة التوازن بين العوالم الخارجية والداخلية، فالنوم عبارة عن تصفية لأشياء غير صحية متراكمة في الدماغ وهي وسيلة للحفاظ على مرونته الضرورية لعمله على أفضل وجه.
5 – المعمر
كان العلماء يعتقدون أن الخلايا العصبية هي من بين عدد قليل من الخلايا البشرية التي لا تتجدد، ولكن خلافاً لهذا الاعتقاد، يقوم دماغ الإنسان بإنتاجها طوال حياتنا، ويقول الدكتور بيير ماري ليدو إن الدماغ هو العضو البشري الوحيد الذي يستطيع الإفلات من تأثير الزمن لأنه في تطور بنائي دائم ولكن شريطة أن يحاول المرء تحفيزه الدائم بتعلم الجديد.
6- الساحر
يشير اختصاصي علم التحليل النفسي رولون جوفون مؤلف كتاب (الدماغ الساحر) إلى أن الدماغ يشبه حصاناً جامحاً لكن الفص الجبهي (جزء من دماغ الإنسان وأدمغة الثدييات، يقع في الجزء الأمامي لكل من نصفي الكرة الدماغية ويختص بالحركة وبعض التكلم والتخطيط والمنطق والذاكرة البعيدة وغيرها) هو الذي يكبح جموحه لأنه يفصل بين الحيوان والمدرب الموجود فينا، فعندما أريد أن أعبر شارعاً وأسمع ضجيج سيارة قادمة نحوي فإنني أتراجع إلى الوراء من دون تفكير وهنا تتدخل منطقة القشرة الحديثة وهي جزء من القشرة المخية والطبقة الخارجية من نصف كرة المخ، وما يميز القشرة الجديدة هو قدرتها على تقسيم المهام بين مختلف مناطق المخ (فمثلاً هناك مناطق متخصصة بالحركة وأخرى بالإحساس).
7- الخبرة والعمل
ثمة تعبير يقول: “عملنا يشكل دماغنا” فخلال جميع مراحل التعلم نجد أن البنية الشبكية للخلايا العصبية تتغير في العمق إلى أن تمنح الدماغ شكله الذي يعكس خبرتنا وعملنا على مدى السنين، حيث أظهرت التجارب من خلال صور التقطت للدماغ بتقنية الرنين المغناطيسي أن دماغ الرياضي يحوي مناطق حسية وحركية فوق العادة كما لوحظ حساسية فائقة في منطقة القشرة الشمية عند دماغ العطار في حين تنشط في الموسيقي والمترجم مناطق عميقة في الدماغ وتكبح مناطق أخرى من القشرة الدماغية.
8- الميكانيكي
قبل بضع سنوات كان علماء الأعصاب يعتقدون أن الدماغ والحبل الشوكي مناطق لا يمكن إصلاحها لكن هذا المفهوم تغير بعد اكتشاف الخلايا الجذعية عند البالغين إذ يمكن استعادة النظام الأصلي لبنية الدماغ من خلال مساعدته على إعادة بناء الوظيفة نفسها مع مجموعات أخرى.
9 – البدائي
هل يمكننا أن نعتبر بعض معارفنا كأنها فطرية؟ فنحن نعلم منذ وقت طويل أن الدوائر العصبية تتشكل ويتم تعزيزها مع كثرة التجارب التي يمر بها المرء، وهذا ما نطلق عليه “المرونة العصبية الشبكية”، فريق البروفيسور هنري ماركرام من جامعة لوزان قدم من خلال أبحاثه مساهمة فعالة بشكل خاص . حيث أثبت الفريق العلمي أنه توجد في القشرة المخية الحديثة، مجموعات صغيرة من الخلايا العصبية الهرمية التي تتواصل فيما بينها وفقاً لقوانين لا تتغير وأن التجربة لا علاقة لها في تكوين هذه الاتصالات، بل إن هذه الخلايا التي يصل عددها إلى الخمسين تحوي أشكالاً من المعرفة الأساسية الفطرية التي تمثل بعضاً من الملامح البسيطة عن العالم المادي، وأن المعارف المكتسبة كالذاكرة مثلاً تتشكل من خلال تواصل هذه الخلايا فيما بينها وهذا ما يفسر حسب الدكتور ماركرام لماذا نتقاسم كلنا نفس التصورات عن بيئتنا في حين أن الذاكرة تعكس تجاربنا الشخصية فقط .
10 – الحالم
من خلال التجارب الحديثة تبين أن أحلام اليقظة تحفز الدماغ، بل إنها تمكنه من حل مسائل معقدة، وتشير الدكتورة كالينا كريستوف من جامعة كولومبيا البريطانية إلى أن المناطق الدماغية التي كان يعتقد أنها تنام أثناء التفكير بطريقة بعيدة عن التركيز تكون نشطة أيضاً وليست خاملة فعندما نتذكر اسماً ما ونقول إنه على رأس لساني كما هي العادة فلا داعي للتركيز من دون فائدة، بل الأفضل أن تفعل شيئاً آخر وسيأتي الاسم بعد ذلك من تلقاء نفسه، أي اترك لنفسك الوقت كي تحلم بشيء آخر فدماغنا أذكى مما نتوقع .
محمد هاني عطوي – الخليج