حلول ذكية لكسر العزلة الاجتماعية

الرئيسية » إبداع وتنمية » حلول ذكية لكسر العزلة الاجتماعية

لم تقتصر المعاناة التي يواجهها البشر اليوم على كبار السن والمرضى، وإن كانوا الفئة الأكثر تضررا من القوانين المفروضة على الناس بسبب جائحة كورونا، فمشاعر الوحدة والعزلة طالت الكبار والشباب ولم يسلم منها الصغار. الذكاء الاصطناعي وحده كان هناك ليخفف من حدة تلك المشاعر.

شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، فرضت جائحة كورونا قيودا قاسية على تنقلات الناس ونشاطهم الاجتماعي، إلا أن كبار السن والأشخاص الذين يعانون من أمراض مزمنة يواجهون قيودا أكثر تشددا، حيث تمنع دول كثيرة خروجهم من المنازل حتى لو كان الأمر يتعلق بقضاء حاجاتهم الضرورية كالتسوق، مما جعلهم يشعرون بعزلة كبيرة.

ليس المرضى وحدهم وكبار السن من يعانون نتيجة الجائحة؛ قد تكون القيود المفروضة على الشباب أقل تشددا، ولكن في ظروف تمنع فيها النشاطات الاجتماعية وتقفل المطاعم والملاهي والمقاهي ودور السينما والمسارح أبوابها، تقل فرص الاحتكاك والتعارف، وهناك من يقول إن هذا الوضع أثر بشكل واضح على نسب العزوبية، وتخشى دول من تفشي ظاهرة العنوسة إذا طالت فترة التباعد الاجتماعي.

حلول عملية

بالتأكيد لا تقتصر تداعيات الجائحة على هاتين المشكلتين؛ التباعد الاجتماعي خلق خللا في بنية الحياة الاجتماعية طال مختلف الفئات العمرية ومن ضمنها الأطفال والمراهقون الذين ابعدوا عن مقاعد الدراسة. والدول التي تشهد نهضة علمية واقتصادية لم تقف حكوماتها مكتوفة اليدين تنتظر حدوث معجزة تخلصها من الجائحة وتمكنها من إلغاء التباعد الاجتماعي. أي تأخر في تقديم حلول عملية ستكون عواقبه وخيمة.

وللتباعد الاجتماعي آثار وندوب يصعب التخلص منها حتى مع رفع الحجر وإلغاء التباعد الاجتماعي. وإن كان بالإمكان اليوم تخيل بعضها، إلا أن معرفة ما قد ينجم عنها من مساوئ بشكل دقيق ستحتاج إلى الكثير من الدراسة والوقت. لا نعلم إن كان مجرد صدفة أن الجائحة اجتاحت العالم بالتزامن مع تطور أبحاث الذكاء الاصطناعي وعلم الروبوتات، أم هي العناية السماوية تدخلت حتى لا ينقرض الجنس البشري؟ ما يهم أننا بتنا نعرف اليوم مدى أهمية الخدمات التي قدمها الذكاء الاصطناعي والخوارزميات والروبوتات لإنقاذ البشرية والتخفيف من آثار الجائحة، ليس فقط في تقليل أعداد الإصابات والضحايا، بل أيضا في تقديم خدمات اجتماعية وصحية وثقافية جمة.

اليابان واحدة من الدول التي سارعت لتوظيف تقدمها التكنولوجي في تخفيف الآثار الاجتماعية للجائحة على مواطنيها، وذلك بتبني حلول ذكية وتشجيع الشركات اليابانية على الاستثمار في هذا المجال. تاريخيا معروف أن الأزمات تتحول إلى دافع قوي للابتكار والتطوير، ولهذا كان المثل الشهير والمتداول دائما “الحاجة أم الاختراع”، وأزمة كورونا هي واحدة من أسوأ الأزمات التي واجهتها البشرية منذ مئة عام.

قبل جائحة كوفيد – 19 كانت الشركة اليابانية الناشئة “دونات” تختبر روبوتات تقوم بمهام الترجمة بهدف مساعدة الزوار الأجانب في المطارات، ومع توقف حركة السفر وانخفاضها في أحسن الأحوال إلى أقل من النصف توقف المشروع، ولكن أبحاث الشركة لم تتوقف، بل وجهت باتجاه آخر. كان أول ما لفت انتباه القائمين على المشروع أن معظم سكان العالم يرتدون أقنعة تقيهم من الفايروس، لم ينتظروا كثيرا لاستكشاف الفرصة؛ يمكنهم استخدام البرنامج الذي عكفوا على تطويره لابتكار قناع ذكي. “بصفتنا شركة روبوتات، كنا نفكر في ما يمكننا فعله خلال الجائحة، واعتقدنا أنه يمكننا ابتكار قناع يمكن توصيله بهاتف ذكي، أو قناع يمكن أن يساعد في الحفاظ على المسافة الاجتماعية، ويمكنه معالجة الأصوات رقميا وترجمتها، من هنا جاء قناع ‘سي.فيس’”، هكذا شرحت الشركة توجهها الجديد على لسان مسؤول إداري. وبالاقتران مع تطبيق موجود على جهاز الهاتف النقال أو الكمبيوتر يمكن للقناع ترجمة الكلام إلى عدة لغات أو تضخيم صوت مرتديه.

مرحبا.. أنا بابيرو

لسنوات طويلة أذهلت اليابان العالم بإنجازاتها التكنولوجية رغم خروجها من الحرب مهزومة ومدمرة، لتقود العالم لعقود طويلة خاصة في مجال الإلكترونيات. لهذا كان من الطبيعي أن تدلي بدلوها وتقترح حلولا لمشاكل كثيرة ترتبت على الجائحة. فإلى جانب ما عرف عنها من تقدم في صناعة الإلكترونيات، عرفت أيضا بصفتها مجتمعا يحرص على العناية بأفراده، خاصة المسنين. احترام هذه الفئة العمرية ميزة يشتهر بها المجتمع الياباني.

ما كان للمعاناة التي يواجهها كبار السن نتيجة للتباعد الاجتماعي المفروض أن تمر دون اهتمام. من هنا كان تطوير شركة تكنولوجيا المعلومات والإلكترونيات اليابانية “إن.إيه.سي كوربريشن” روبوتا يدعى “بابيرو” لمرافقة كبار السن والدردشة معهم، للتخفيف من عزلتهم والمحافظة على صحتهم العقلية. وبفضل وظيفة التعرف على الكلام المعتمدة على الذكاء الاصطناعي يساعد الروبوت الصغير الحجم المواطنين المسنين على إجراء محادثات ويخفف عنهم مشاعر الوحدة والعزلة.

وكانت بلدية “فوجيدا” اليابانية أول جهة تسارع لاستئجار الروبوت الاجتماعي الذي يسمح أيضا بالبقاء على اتصال مع أحبائهم من خلال تبادل الرسائل النصية أو الصور ومقاطع الفيديو، ويمكن استخدامه لمراقبة الحالة الصحية من خلال تحديد التغييرات في أنماط النشاط. “أبدأ صباحي بمحادثة مع بابيرو، وهذا يعطيني الانطباع بأنني لست وحيدا، ويخفف من حدة العزلة التي أعيشها”، بهذه العبارة عبر أحد سكان فوجيدا عن امتنانه لرفيقه الروبوت.

وامتدح مسؤول في بلدية فوجيدا الروبوت بابيرو، خاصة التقاطه للصور وإرسالها إلى الأقارب الذين يعيشون بعيدا، واستشهد بحادث قام فيه بابيرو بإرسال صورة امرأة مسنة تعرضت للسقوط إلى أحد أفراد عائلتها، الذي اتصل بالإسعاف، ليتضح أن العجوز قد تعرّضت لكسور. ويقول ماتسودا تسوجوهيرو مطور الروبوت بابيرو والخبير التنفيذي في الشبكة الرقمية “لقد بدأت في تطوير الروبوت لأن والدتي كانت تعيش بعيدا وأردت طريقة لرعايتها”.

المسنون ليسوا وحدهم من استفاد من تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. للشباب أيضا نصيب في الرعاية والاهتمام اللذين توليهما حكومة اليابان لمواطنيها. ومن أبرز هذه المشاكل التي خلفها التباعد الاجتماعي تقليص فرص الاحتكاك وبالتالي التعارف. توقف التفاعلات الشخصية بسبب عمليات الإغلاق صعب وقلل من فرص العثور على الشريك المثالي، وهناك من الشباب من يقول إن ذلك شبه مستحيل في الظروف الحالية.

ولكن، في اليابان لا يعرفون المستحيل. إن كنت محظوظا وتعيش هناك، فاعلم أن الحكومة اليابانية جادة في مساعدة الشباب على العثور على “الحب الأبدي”، أو زوجة وزوج المستقبل، باستخدام الذكاء الاصطناعي.
قد لا يكون الهدف من وراء ذلك مجرد خلق فرص للتعارف بين شخصين، بل محاولة من المسؤولين لزيادة معدل المواليد المتناقص بشكل يدعو للقلق، خاصة مع تضخم المشكلة في ظل الجائحة. الأرقام تشير إلى انخفاض في عدد عقود القران في اليابان من 800 ألف خلال عام 2000 إلى 600 ألف عام 2019. وهي بالتأكيد أقل من ذلك بكثير خلال عام 2020، ويتوقع استمرار الانخفاض بشكل كبير خلال عام 2021 مع استمرار الجائحة.

وقد تبنت 25 محافظة من أصل 47 محافظة يابانية خدمة التوفيق بين قلبين، وهي خدمة موجهة للأفراد تشرف عليها الحكومة بشكل مباشر، حيث يقوم المستخدم بوضع مواصفاته المفضلة عن الشريك المحتمل، بما في ذلك العمر والمستوى التعليمي والدخل السنوي، لتعرض له قائمة تتضمن معلومات عن مستخدمين آخرين يستوفون المواصفات التي اختارها.

سؤال متروك للزمن

إلى هنا تبدو الخدمة تقليدية لا تختلف عن المئات من المواقع التي تقدم خدمات مشابهة. لذلك اعتمدت الحكومة اليابانية حلولا ذكية لإنقاذ الموقف. وتفرض أنظمة المواعدة عبر الذكاء الاصطناعي المتبناة على المستخدمين الإجابة على أسئلة أكثر خصوصية وتحديدا تكشف قيمهم وآرائهم حول مختلف الموضوعات. ويتعين على المشاركين في الخدمة الإدلاء بالكثير من المعلومات والتفاصيل حول هواياتهم واهتماماتهم، وباستخدام هذه الخدمة يوجد احتمال أكبر أن يؤدي التطابق إلى الزواج، كما يعتقد القائمون على المشروع. وتعهدت الحكومة بدفع ثلثي تكاليف إدخال وتشغيل أنظمة المواعدة الجديدة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي التي ستطلق في بداية فصل الربيع.

هذا غيض من فيض لما يمكن لتكنولوجيا الذكاء والخوارزميات تقديمه للمجتمع، ليس فقط لفك عزلة الناس ومساعدتهم في البحث عن شريك المستقبل، بل في كل مناحي الحياة بما فيها الجوانب الصحية والنفسية والتعليمة والثقافية. حتما يستحق منا الذكاء الاصطناعي كلمة شكر. ولكن، هل سيتخلى عن دوره ومهامه بعد تجاوز المحنة التي تتعرض لها البشرية، أم أنه سيتشبث بمواقعه التي اكتسبها؟ سؤال متروك للزمن، ولكن ينصح من الآن بالاستعداد لـ”عالم شجاع جديد”.

علي قاسم- صحيفة العرب

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *