ولجت الإنسانية في زمن وباء كورونا ، مرحلة جديدة لا أحد يمكن أن يتكهن بدقة كيف ستنتهي؛ أو كيف ستشكل العالم في الراهن و المستقبل القريب والمتوسط والبعيد؟
وهناك شعور عام بأننا فعلا في أزمنة “ما بعد عادية” كما كان يقول ضياء الدين سردار، أزمنة تتبعثر فيها المسلمات وتتبدد اليقينيات وتتفاقم الشكوك، بل ستظهر فيها مخاوف دفينة وهواجس جديدة.
لكن هناك نوع من التوافق بين الباحثين والمفكرين والعلماء وحتـي عامة الناس، بأن الرأسمالية ليست فقط “متوحشة”، وإنما أصبحت مولدة للكوارث و المخاطر بل هي أكبر خطر يهدد العالم.
وقد استعمل مفهوم “رأسمالية الكوارث”مجموعة من الباحثين مثل نعومي كلين في كتابها استراتيجية او عقيدة الصدمة وكذلك الصحفي أنتوني لوينشتاين، حينما أصدر كتابه “Disaster Capitalism” والذي ترجمه المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب، الى العربية سنة 2019.
ويراد بهذا المفهوم، أن الرأسمالية هي نظام وآلية لشجع الحكومات والشركات المتعددة الجنسية،وهي تستعمل حتى في الحروب والاوبئة لتحقيق المزيد من الأرباح، للمتحكمين الكبار في النظام الرأسمالي المتوحش وغير الإنساني. فرأسمالية الكوارث هي التجسيد الفعلي، للغلو في استغلال معاناة العالم، بل صناعة الأزمات وافتعال النزاعات وإنتاج الأمراض والأوبئة؛ لتحقيق الثراء الفاحش!!!
ويقول أنتوني لوينشتاين “الرأسمالية المفترسة تتجاوز نطاق استغلال الكارثة؛ فالعديد من الأزمات المستمرة حاليا يبدو أن الشركات هي التي أبقت عليها وأطالت أمدها؛ بهدف دعم وتشغيل صناعات لديها حصة مالية فيها. هذه الشركات شبيهة بالطيور الجارحة التي تتغذى على جثة حكومة ضعيفة، والتي بدورها لابد أن تعتمد –على نحو متزايد- على القطاع الخاص لتوفير الخدمات العامة. ومن المؤكد أنه يمكن المجادلة بأن الشركة باتت الآن على نحو أساسي أكثر من القوة من “الدولة – الأمة”، وأنها صارت أغلب هي التي تملي إرادتها وتفرض شروطها على الأخيرة. ويمثل هذا الأمر تحولا عميقا في السلطة حدث خلال نصف القرن الفائت. هناك وضع منافس تعتمد في إطاره الدولة والشركات متعددة الجنسيات كل منها على الأخرى بنحو متساو، والذي يسمح فيه للشركات بأن تنمو لتصبح كبيرة فقط بتكرم من السياسيين الانتهازيين. كما أن رقابة غير موجودة في أغلب الأحيان، في العالم الغربي والدول النامية، حيث يمكن القول بأن سلطة الشركات هي التي فازت” (انتوني، رأسمالية الكوارث، ص: 19).
إن هذا الفوزالكبير للشركات الكبرى واستحواذها على اقتصاديات العالم وتوجيه التجارة الدولية الى المسارات التي تخدم مصالحها، لم يتحقق هكذا بدون دعم رجال السياسة من جهة ورواد الفكر الاقتصادي من جهة أخرى .فعلماء الاقتصاد الكلاسيكي ورغم تعدد آرائهم، مثل ادم سميث وريكاردو ومالتوس، وكارل ماركس وغيرهم، كان تفكيرهم موسوعيا، يمزج بين المقاربة الاقتصادية الصرفة، والبعد الاجتماعي والثقافي والسياسي.
لكن الفكر الاقتصادي الكلاسيكي الجديد، مهد الطريق أمام النيوليبرالية، التي أزاحت التفكير الاجتماعي والفلسفي من علم الاقتصاد، فأصبح علما في خدمة الثراء والاستحواذ.
ورغم بروز المدرسة الكينزية أثناء الحرب والتي دعت الى تدخل الدولة، و إدارة الأزمة الرأسمالية، فإنها بقيت منظورا استثنائيا، ارتبط بمرحلة حرجة من تاريخ الرأسمالية، إذ عادت الرأسمالية ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلى التوهج والتوحش .
إن رأسمالية الكوارث لم تعتمد على منظور الحرية الاقتصادية فقط وإنما على الاغتيال الاقتصادي للدول والشعوب بل “خلق الطلب” عبر صناعة الأزمات والحروب والأوبئة. فالشركات الكبرى، تخلق الأزمة وتغذيها وتحميها، لتعلن فيما بعد بأنها هي القادرة على تخليص العالم من معاناته. فرأسمالية الكوارث هي مرحلة البشاعة واللاأخلاقية والنزوع الشيطاني لاستغلال البشرية والتلاعب بها.
ولذلك فقد “علم الاقتصاد” علميته وبعده الاخلاقي، لأنه أصبح خادما فقط للاثرياء المتاجرين بدماء واعراض وحياة وصحة واستقرار الناس. فالسياسيون يعلنون الحرب، والعسكريون يدمرون الدول و المجتمعات، والشركات الكبرى تستفيد من كل ذلك، حيث تحصل على عقود توريد الجيوش بالمعدات والأسلحة، وغير ذلك. وكذلك توظف المرتزقة للقيام بأعمال قذرة، لا ترغب الجيوش النظامية التورط فيها. وبعد نهاية أي حرب مدمرة، تفوز هذه الشركات بصفقات إعادة البناء، وهكذا فعجلة الاقتصاد دائرة على جثث وأشلاء الضعفاء والمسحوقين، أمما وأفرادا.
لقد اعتبر الدكتور “انتوني فاوتشي” مدير المعهد الوطني للأمراض المعدية بالولايات المتحدة الأمريكية، تردد الشركات العالمية المتخصصة في صناعة الأدوية، في المساهمة والإسراع في إنتاج لقاح لوباء كورونا “محبطا للغاية”. وإن سبب احجام هذه الشركات في الاستثمار في إنتاج لقاح، يكمن في تقدير الربح والخسارة، ذلك أن إنفاق مبالغ كبيرة على البحث وإنتاج اللقاح، لأزمة وباء لن تطول كثيرا، ليس مجديا اقتصاديا بالنسبة إليها. وهي تريد كذلك الحصول على منح حكومية للقيام بالبحث والانتاج، بدل المغامرة برأسمالها الخاص.
ولم تنخرط الشركات العالمية في “مؤسسة تحالف ابتكارات التأهب للأوبئة ” (CEPI) والتي هي شراكة بين القطاعين العام والخاص، تشكلت في النرويج سنة 2017 من “أجل لقاحات جديدة لعالم أكثر أمانا”.
ولقد فشلت هذه المؤسسة، كما أشار الى ذلك جيرالد بوسنر، الصحفي الأمريكي، في مجلة ¨The New York Times¨ حيث قال: “لكن ما ظهر للرأي العام آنذاك هو فشل جهود المؤسسة في إقناع شركات الأدوية الكبرى بأن يكونوا شركاء في توفير اللقاحات دون الإصرار على جني أرباح مالية كبيرة أو الحصول على حقوق الملكية الفكرية للبحوث التي تساعد المؤسسة في تمويلها وإنتاجها. ولكن ذلك لم يكن مفاجئا لأي مضطلع على شؤون هذه الصناعة، فمن المعروف أنه منذ ثلاثينيات القرن الماضي، انفقت معاهد الصحة الوطنية أكثر من 900 مليار دولار على المنح التي اعتمدت عليها شركات الأدوية للحصول على براءة اختراع الأدوية التي تحمل علامتها التجارية”.
إن وباء كورونا أو غيره من الأوبئة التي يمكن أن تنتج بفعل اختلال التوازن البيئي، اوطيش باحثين او لهفتهم للشهرة أو جنون التسيد والرغبة في التحكم في البشرية ، يجعل الجميع، شعوبا وحكومات وشركات كبيرة أمام خيارين لا ثالث لهما:
الخيار الأول وهو المرغوب فيه، يقتضي التخطيط لمشهد مستقبلي يعتمد على” براديغم جديد”، هو التضامن الإنساني العالمي، والذي لا يلغي حق “تحقيق الأرباح” والتقدم والرفاهية، وإنما يتأسس على ثقافة جديدة، هي مواجهة الأخطار القادمة وبروح إنسانية و مسؤولية حقيقية، والكف عن سياسات التهور سواء من الحكومات أو الشركات الكبرى التي ترغب في الاستفادة من رأسمالية الكوارث.
فهناك حديث متشعب ومتضارب حول اقتصاديات التضامن،و التنمية المستدامة والمسؤولية الأخلاقية اتجاه الأجيال القادمة، وغير ذلك من الاطروحات الفكرية والشعارات السياسية التي لن تكون ذات قيمة عملية، ما لم ينخرط الجميع في تخطيط لمستقبل بشري واحد، يستوعب الفرص الممكنة للتعايش و يتجنب المخاطر المهلكة للجميع.
ان العالم في حاجة إلى اقتصاد جديد، يؤسس لقواعد يتفق عليها الجميع لضمان المساواة والعدالة والرفاهية والكرامة، بعيدا عن ديكتاتورية شيوعية أو ديكتاتورية رأسمالية؛ ويمكن للأديان -وخصوصا الإسلام- المساهمة في مد هذا “العلم الجديد” بالقيم الروحية الضامنة للسمو الإنساني، في المعاملات الاقتصادية وغيرها.
وأما الخيار الثاني، وهو غير مرغوب فيه، وهو الاستمرار في مسار رأسمالية الكوارث، وترك حفنة من أثرياء العالم، العبث بالمصير العالمي، والزج بالبشرية في حروب جديدة، بيولوجية وكيماوية وحروب استغلال الشعوب والتحكم فيها عبر الذكاء الاصطناعي والمراقبة الشاملة. فهناك منظورات مستقبلية تتغذى من ايديولوجيات متطرفة تطمح إلى تقليص عدد سكان العالم، وجعل عرق معين هو صاحب “الأفضلية” و”المشروعية” في إدارة شؤون العالم، دون اعتبار لباقي الاجناس والاعراق.
ان هذا الخيار الذي يكرس العنف الفائق والرغبة الجنونية في الاستحواذ والتحكم، لن يؤدي سوى إلى إنهاك العالم، بل إغراق سفينة البشرية في بحر العبث والفوضي، بل الهلاك.
وهكذا فإن وباء كورونا، هو فرصة لإعادة النظر في منطلقات التفاعل العالمي، ومحددات بناء رؤية مستقبلية عالمية تشاركية.
د. خالد ميار الإدريسي
رئيس تحرير مجلة مآلات، فصلية محكمة تعنى بالدراسات الاستشرافية
الهوامش:
- انتوني لوينشتاين، رأسمالية الكوارث، كيف تجني الحكومات والشركات العالمية، أرباحا طائلة من ويلات الحروب ومصائب البشرية، ترجمة احمد عبد الحميد، المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، 471، نوفمبر 2019.
- جيرالد بوسنر، يهتمون بجني الأرباح أكثر من علاج المرضى…، عربي بوست، الاحد 05 أبريل، 2020.
- arabicpost.net
- Naomi klein, Stratégie de choc, Actes Sud, 2013.
- Naomi Klein, The shock Doctrine : The Rise of Disaster Capitalism, Knop F Canada, 2007.
- Ramon Grosfoguel, ¨Quel(s) monde(s) après le Capitalisme ? Les chemins de l’¨utopistique¨ selon Immanuel Wallerstein, ¨Mouvements¨, n° 45 – 46, 2006, pages 43 – 54.
- cairn.info/revue-mouvements-2006-3-page-43–html