كثيرا ما اشتغلنا في مركبنا الحضاري الإسلامي بالماضي، ومحاولة رد الاعتبار إليه والتنويه بعبقريته الفذة، حيث انبرى لمهمة إحيائه وتقويمه، وغير ذلك من المقاصد، كثير من المفكرين والمنظرين على مختلف مشاربهم ومذاهبهم.
لم يكن هذا الولع بالتراث في الحقيقة إلا تعبيرا عن ضغوط الحاضر، الذي فرض سيطرته بمناهج وتصورات لم تكن بحسبان من انفلت منه زمام المبادرة الحضارية، فتارة تجد من يتقن فنون جلد الذات، فلا يرى في تاريخه إلا المطبات والعوائق، وآخر اطمأن إلى أن كل مااستجد في عالم الإنسان من كسب وتقدم، فقد كان الآباء الأولون هم الرواد والسباقون، في حين عمل البعض على إيجاد تأصيل لما استجد من أنماط تنظيم الحياة الاجتماعية والاقتصادية في التراث الحضاري للأمة، إلى غير ذلك من الأهداف التي حكمت العودة إلى التراث أو الماضي بصفة عامة، متراوحة بين المدح أو الذم أو التقويم “الموضوعي” أو ” العلمي”.
إن الوعي الصادم بالهوة السحيقة التي تفصل بين عالمنا وما بلغه الآخر من صنوف التقدم والإنجاز المتواصل الذي لا يفتأ عن الاختراع والتجديد، والابتكار والإبداع، أدى إلى هذا الاحتماء الطبيعي بالذات والهوية والماضي التليد، ذلك الماضي الذي كان حاضرا وله ماض، استطاع أهله أن يكسبوا رهان التحقق التاريخي للحظة الانطلاق الحضارية ليس للأمة الإسلامية فقط بل للإنسانية جمعاء، وكان تعاملهم مع ماضيهم الخاص والإنساني العام بيقظة وحضور ، بحيث أفلحوا في الإمساك بمفاصل التقدم الذي يسهم في تقدم الإنسان. فلم يكن عملهم مجرد بكاء على الطلل، بل كان وليد معاناة وتضحيات واجتهاد دؤوب في سبيل استكمال أمانة الاستخلاف التي لاتعرف كللا ولا كسلا، أو تواكلا ولا تهاونا.
صحيح أن كثيرا من مشاريع تقويم التراث وبناء الذات وأسئلة الهوية والكونية، تروم استعادة مبادرة الفعل والإبداع الحضاريين للأمة، ولكنها تسهم بشكل أو آخر في تعميق الإحساس بالتخلف عن الآخر، وجعل سبيل الخلاص هو اتباع ما سار عليه هذا الخلف المعاصر، وكأنه الإمكان الوحيد الذي به تتحق آمال الإنسان في الكمال الحضاري، فتزداد بذلك حدة الفصام بين الماضي والحاضر الذي يُفقِد الذكاء الإنساني كل قدرة على الحلم بشكل مختلف، قد ييسر له اكتشاف طريق جديد غير مسبوق في الاستئناف الحضاري للإنسان. أولم تكن المبادرات السابقة إلا أحلاما سهر ذوو الهمم العليا على تحقيقها وإنجازها؟
لقد كان الكلام عن الأنا المتخلف والآخر المتقدم طيلة عقود له ما يبرره، إذ دخل الإنسان، في ذلك الطور، عصر التقنية الذي علقت عليه الآمال وظهر بسطوته في مختلف الأرجاء والآفاق، أما اليوم، فقد بدأت فيه مراجعات الكسب التقني وما أدى إليه من نتائج لا تعود إلا بالضرر الكبير على الإنسان من حيث آثارها المدمرة للحياة، بل إن السير في هذا المنظور التقنوي العلمي مجردا عن المقاصد الإنسانية يجني على مستقبل الإنسان في هذا المعمور ويسعى لخرابه.
ولذلك تعالت أصوات من الشرق والغرب تدق ناقوس الخطر الذي يهدد حاضرنا ومستقبلنا، مما يحملنا مسؤولية الانخراط بقوة في مواجهة تحديات زمننا العولمي الرقمي بجد واجتهاد، وتنوير واختراع من أجل مستقبل أسعد.