الذكاء الاصطناعي ليس مصطلحا حديثا كما يظن البعض، لقد صاغ عالم الكمبيوتر جون مكارثي هذا المصطلح عام 1956، وعرَّفه بنفسه بأنه “علم وهندسة صنع الآلات الذكية”. في منتصف القرن الماضي، بدأ عدد قليل من العلماء استكشاف نهج جديد لبناء آلات ذكية، آلة يمكنها محاكاة عملية التفكير الحسابي الإنسانية، وتم ذلك بناء على الاكتشافات الحديثة في علم الأعصاب، ونظرية رياضية جديدة للمعلومات، وتطور علم التحكم الآلي، وقبل كل ذلك، اختراع الكمبيوتر الرقمي.
نبوءات مبكرة
يمكن أن نقول إن المجال الحديث لبحوث الذكاء الاصطناعي أسس لها في مؤتمر عقد في كلية دارتموث في صيف عام 1956، ليصبح المشاركون في ما بعد قادة بحوث الذكاء الاصطناعي لعدة عقود؛ خاصة جون مكارثي، ومارفن مينسكاي، وألين نويل، وهربرت سيمون، الذي أسس مختبرات للذكاء الاصطناعي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة كارنيغي ميلون وستانفورد.
كان الحاسب الآلي حتى تلك اللحظة يحل مسائل في الجبر، ويتحدث الإنجليزية. وكانت تلك البحوث حينها تمول بسخاء من وزارة الدفاع الأميركية. كان لا بد لهذه المجموعة من الباحثين من تقديم توقعات للمستقبل، من المفيد عرضها الآن بعد مرور أكثر من نصف قرن. عام 1965، توقع هربرت سيمون أن “الآلات ستكون قادرة، في غضون عشرين عاما، على القيام بأي عمل يمكن أن يقوم به الإنسان”.
وفي عام 1967 قال مارفن مينسكي “في غضون جيل واحد… سوف يتم حل مشكلة خلق الذكاء الاصطناعي بشكل كبير”. وفي عام 1974، وردا على انتقادات السير جيمس لايتهيل والضغط المستمر من الكونغرس لتمويل مشاريع أكثر إنتاجية، قطعت الحكومتان الأميركية والبريطانية تمويلهما لكل الأبحاث الاستكشافية غير الموجهة في مجال الذكاء الاصطناعي، كانت تلك أول انتكاسة تشهدها أبحاث الذكاء الاصطناعي.
وفي أوائل الثمانينات، شهدت أبحاث الذكاء الاصطناعي صحوة جديدة من خلال النجاح التجاري “للنظم الخبيرة”، وهي أحد برامج الذكاء الاصطناعي التي تحاكي المعرفة والمهارات التحليلية لواحد أو أكثر من الخبراء البشريين. وبحلول عام 1985 وصلت أرباح أبحاث الذكاء الاصطناعي في السوق إلى أكثر من مليار دولار، وبدأت الحكومات التمويل من جديد.
وفي التسعينات وأوائل القرن الحادي والعشرين، حقق الذكاء الاصطناعي نجاحات أكبر، وإن جرى ذلك إلى حد ما من وراء الكواليس. ويستخدم الذكاء الاصطناعي اليوم بشكل مكثف في اللوجستية، واستخراج البيانات، والتشخيص الطبي والعديد من المجالات الأخرى في جميع فروع صناعة التكنولوجيا. ويرجع ذلك النجاح إلى عدة عوامل أهمها القوة المتنامية لأجهزة الكمبيوتر، وزيادة التركيز على حل مشاكل فرعية محددة، وخلق علاقات جديدة بين مجال الذكاء الاصطناعي وغيره من مجالات العمل، وفوق كل ذلك بدأ الباحثون الالتزام بمناهج رياضية قوية ومعايير علمية صارمة.
وفي القرن الحادي والعشرين، أصبحت أبحاث الذكاء الاصطناعي على درجة عالية من التخصص والتقنية، وانقسمت إلى مجالات فرعية مستقلة وأصبحت قليلة الارتباط ببعضها البعض. ونمت أقسام كل حقل حول مؤسسات معينة، وعمل الباحثون على حل مشكلات محددة، ونشأت خلافات في الرأي حول الطريقة التي ينبغي أن يعمل وفقا لها الذكاء الاصطناعي، وتطبيق أدوات مختلفة على نطاق واسع.
كل شيء تم بتحفظ وكتمان، حتى أولئك الذين يهتمون بالتكنولوجيا الرقمية لم تكن لديهم دراية كبيرة بقضايا الذكاء الاصطناعي، بعيدا عن أفلام الخيال العلمي. وكنا نسمع عن شركات وأفراد يبتكرون روبوتا (إنسانا آليا)، مثّل بالنسبة لمعظمنا آلة ميكانيكية – إلكترونية، تحاكي حركات الإنسان وتقلده بشكل اعتباطي ومضحك أحيانا.
البداية من ووهان
فجأة تغير كل شيء مع وباء كورونا وانتشاره عبر العالم، ووقوف الحكومات والأفراد عاجزين عن مواجهته. عندها، بدأنا نسمع عن الذكاء الاصطناعي، وننظر إليه بوصفه مخلصا، وتوجهت الأنظار جميعها لما يمكن أن توفره تقنيات هذا الذكاء من حلول تخرجنا من كارثة كشفت عن ضعفنا البشري.
قبل تفشي فايروس كورونا كانت “بلو دوت” من أولى الشركات الناشئة في العالم التي اعتمدت البيانات والخوارزميات في رصد تفشي الفايروس، قبل وقت طويل من تحديد طبيعة الفايروس وإمكانية تحوله لجائحة عالمية. وبعد ساعات فقط من تشخيص الحالات الأولى للمرض من قبل السلطات المحلية بمدينة ووهان بالصين، أكد فريق “بلو دوت” أن هذا الفايروس من المرجح جدا أن يتحول إلى وباء، وذلك باعتماد تقنيات التعلم الآلي وخوارزميات تتبعت انتشاره، وساهمت في فهم سلوكه.
وقامت الخوارزميات بتتبع التقارير الإخبارية وتجميعها، مع التركيز على شبكات الأمراض الحيوانية والنباتية السابقة وتحليلها آليا، وبفضل الإمكانيات المتطورة سبقت الشركة الكندية المتخصصة في مجال الذكاء الصناعي، في تنبؤاتها الإعلانات الصادرة عن المنظمات الصحية الصينية والدولية بخصوص طبيعة الفايروس. وأصدرت “بلو دوت” تقارير توقعت من خلالها، بشكل صحيح، انتقال فايروس كورونا من الصين إلى دول جنوب شرق آسيا مثل اليابان، وكوريا الجنوبية، وتايلاند، بناء على تحليل بيانات تذاكر الطيران المنطلقة من مدينة ووهان التي تم بيعها خلال فترة ظهور الفايروس، وهو ما جعل الشركة توفر إنذارا مبكرا، في يناير الماضي، حول مسارات انتشار الفايروس، أي قبل انتشاره في أوروبا.
ولم تكن تلك المرة الأولى التي تساعد فيها تقنيات الذكاء الصناعي التي طورتها الشركة في التنبؤ بالأوبئة؛ فقد سبق لها سنة 2016 أن قدمت معطيات مهمة حول وباء زيكا ساهمت بها في توفير حلول للإحاطة بالمرض وتحجيم انتشاره. واعتمدت الشركة في هذه المعطيات على مجموعة من الخبراء في أنظمة لها علاقة مباشرة بتطور الأمراض المعدية وطرق انتشارها منها علوم البيانات، وعلم الجغرافيا، وعلم الأمراض المعدية، والصحة العامة وغيرها.
ويعمل خبراء الشركة بشكل تعاوني ومتكامل انطلاقا من تجميع وفلترة البيانات وتحليلها وتقديمها لعلماء الأوبئة للتحقق من مدى منطقية استنتاجاتهم من وجهة نظر علمية، إلى صياغة تقارير تقدم إلى صناع القرار بالحكومات وقطاع الأعمال والصحة من أجل اتخاذ القرارات المناسبة. كل هذا يعيدنا إلى التعريف الذي وضعه في منتصف الستينات كل من أندرياس كابلان ومايكل هاينلين للذكاء الاصطناعي بأنه “قدرة النظام على تفسير البيانات الخارجية بشكل صحيح، والتعلم من هذه البيانات، واستخدام تلك المعرفة لتحقيق أهداف ومهام محددة من خلال التكيف المرن”.
ومن هذا المنطلق، الروبوت هو مجرد آلة تتخذ شكلا مشابها للبشر تسيطر على أدائها نظم تعتمد البيانات والخوارزميات. وتقدم خدمات مبرمجة للبشر. وبعيدا عن مساعدته في تطبيق التباعد الاجتماعي، يشكك العلماء حتى هذه اللحظة بقيمة الخدمات التي يمكن أن يقدمها الذكاء الاصطناعي في الحقل الطبي. وقد يثير هذا التعليق استغراب الكثير ممن تناقلوا الحديث عن معجزة طبية حققها الذكاء الاصطناعي، خاصة هؤلاء الذين يتابعون ما ينشر عن إيلون ماسك، الذي يكثر من التحدث عن الوصول إلى شرائح ذكية تزرع في دماغ الإنسان تنهي المسافة الفاصلة بين الكمبيوتر والدماغ.
وحسب ماسك ربما نتمكن قريبا من تشغيل الأضواء أو طلب شيء عبر الإنترنت بمجرد التفكير بالأمر. والواقع أن علماء الأعصاب درسوا منذ عقود فكرة الواجهة الحاسوبية الدماغيّة القادرة على تحويل إشارات المخ إلى مخرجات تشير إلى نية المستخدم. ووفق هؤلاء الباحثين، ستكون حالات الاستخدام الأولى علاجية إلى حد كبير. ما يُمكّن، مثلا، الأشخاص المصابين بالشلل من تحريك أطرافهم الاصطناعية بسهولة أكبر، ويمكّن المكفوفين من استعادة بصرهم.
وقال ماثيو أنجل، الرئيس التنفيذي لشركة بارادوميكس، في حديث مع مجلة فوربس “أرى أن مستقبل الواجهات الدماغية الحاسوبيّة هو معالجة المشكلات والاضطرابات النفسية مثل القلق والاكتئاب والفصام واضطرابات الوسواس القهري. وتوجد طرق مختلفة لتطوير هذه الواجهات لتتعامل مع هذه البيولوجيا المعقدة”.
ويتصور ماسك الوصول لعلاجات لمجموعة مماثلة من الأمراض، بالإضافة إلى الزهايمر باستخدام شريحة “نيورالينك”، وأظهر أطباء الأمراض العصبيّة ردود أفعال متباينة تجاه الشريحة. إذ قال لورين فرانك، عالِم الأعصاب في جامعة كاليفورنيا سان فرانسيسكو ومعهد هوارد هيوز الطبي “إن عمل نيورالينك في دماغ بشري لفترة طويلة دون مشكلات، ودون تدمير مجموعة من الأوعية الدموية يمثل تحديا بيولوجيا صعبا، بغض النظر عن جمال الشريحة ذاتها”. ويرى إيلون ماسك أن شركته الناشئة (عمرها أربع سنوات) ستكون أول من يصنع شريحة دماغية توفرها للجميع بأسعار معقولة.
معجزة طبية أم وهم
هذا التفاؤل قابلته مؤخرا تحفظات كبيرة، إن لم نقل تشاؤم، من قبل باحثي غوغل، الذين أجروا اختبارات هدفت إلى دراسة دقة التحاليل الطبية، التي تجرى اعتمادا على البيانات والخوارزميات. عندما أجرى باحثو غوغل دراسة في تايلاند هدفت لتقييم فعالية تقنية التصوير الطبي التي طورتها الشركة، لم تكن للنتائج الأكثر إثارة للاهتمام علاقة تذكر بكيفية عمل الخوارزميات.
وبدلا من ذلك، اكتشف الباحثون أن العامل البشري غالبا ما يقوض إمكانات مثل هذه التكنولوجيا، وأن مشاكل العالم الحقيقي غالبا ما تعيق استخدام الذكاء الاصطناعي. وكانت الدراسة، المتعلقة باستخدام نظام التعلم العميق للتعرف على مرض السكري في العين، أول “دراسة رصد تركز على الإنسان” من نوعها. وكانت لدى فريق البحث أسبابهم للتفاؤل بشأن فعالية التكنولوجيا الأساسية، خاصة أن فحص صور المرضى في بيئة معملية مخبرية، جاءت أفضل بكثير من نتائج الاختبارات التي أجراها المتخصصون. ومن الناحية النظرية بدا كل شيء رائعا، لكن النظرية انهارت بمجرد أن رجع مؤلفو الدراسة إلى أرض الواقع.
وفي العالم الحقيقي، سارت الأمور بشكل مختلف. في بعض العيادات، لم تكن الإضاءة مناسبة، أو كانت سرعات الإنترنت بطيئة جدا لتحميل الصور. ولم تستخدم بعض العيادات قطرات العين على المرضى، مما أدى إلى تفاقم مشاكل الصور. وكانت النتيجة عددا كبيرا من الصور التي لا يمكن للنظام تحليلها.
لكن، هذا لا يعني أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لا يمكن أن تعود بالفوائد على أعداد كبيرة من السكان الذين يفتقرون إلى الوصول الكافي إلى الرعاية الصحية. ويقول إريك توبول، أستاذ الطب الجزيئي في معهد سكريبس للأبحاث، إنه بسبب ندرة الموارد، لا يتم فحص نصف مرضى السكري بحثا عن اعتلال الشبكية، وهو مرض يصيب العين. ويقول “مازالت تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي جيدة بما يكفي لإحداث فرق”.
وعند تقديم التقنيات الجديدة، لم يأخذ المخططون وصانعو السياسات ومصممو التكنولوجيا في الحسبان الطبيعة الديناميكية للقضايا الناشئة في برامج الرعاية الصحية المعقدة. ويجادل المؤلفون بأن الاهتمام بالأشخاص؛ دوافعهم، وقيمهم، وهوياتهم المهنية، والمعايير والإجراءات الحالية التي تشكل عملهم، أمر حيوي عند التخطيط للاختبارات والتقييم.
وعلى الرغم من أن الدروس المستفادة كانت محبطة، إلا أن إجراء هذا النوع من الاختبارات شكل خطوة ضرورية ومسؤولة، تستحق عليها غوغل، التي نشرتها للجمهور، الشكر والثناء.
صحيفة العرب