نسمات الآس

الرئيسية » علم وحضارة » نسمات الآس

العلامة الأستاذ عبد الله المرابط الترغي التطواني ينتقل إلى جوار ربه

انتقل إلى دار البقاء شيخ المحققين الأستاذ الدكتور عبد الله المرابط الترغي، في ثغر طنجة يوم السبت 6 يونيو 2015، فترك في قلوب ذويه ومحبيه وإخوانه وطلبته حزناً كبيراً بعد أن رابط على ثغر التحقيق وإخراج نفائس التراث المغربي والأندلسي ردحاً من الزمان، مكنه من أن يتبوأ مكانة مرموقة، ويبرز في هذا المجال العلمي.

تعرفت إلى الدكتور قبل سنوات خلت من خلال مشروع علمي مشترك. وقد رأيت في الرجل همة العالم النشيط، وحيوية الشاب المتحمس، ووداعة الزاهد المتعفف. كانت الابتسامة لا تفارق الرجل حتى عندما تخالفه الرأي أو يخالفك لأن العلم رَحِمٌ بين أهله، ولذوي الأرحام حُرمة وتوقير. هكذا عرفت هذا الرجل، وهي شهادة لا توفي قدره، إذ هناك مَنْ هو أَقْدَرُ مني على ذلك من بين محبيه وأصدقائه وطلبته ممن لازموه وعرفوه مخبراً ومظهراً. لكني مع ذلك، أعرف أن اللحظة الأولى في التعرف على الكبار من طينة هذا الرجل كافية لأن ترسم لك جغرافية البلاد التي أنت داخل إليها، والرجال الذين أنت مقبل على الاحتكاك بهم.

وعلاقة بوفاة الأستاذ عبد الله الترغي، فقد توصلت برسالة تعزية وتأبين في حق الفقيد، من أخ عزيز وصديق حبيب هو الدكتور عبد الحميد عبد الله الهرامة من ليبيا الشقيقة، رفع الله عنها حَوَاِلكَ هذه السنين، يذكر فيها علاقته بالرجل لما كان طالباً باحثاً في المغرب، ثم أستاذاً في حقل الدراسات المغربية والأندلسية. كما يعدد ما للرجل من أفضال على الباحثين والمشتغلين في مجال البحث والتحقيق، ويبين ما أسداه إلى هذا الصديق العزيز من معروف علمي، وكيف أمده بمصورات لمخطوطات نادرة عكف عليها حتى أخرج بعضها مما له صلة بتاريخ الغرب الإسلامي عامة وليبيا خاصة. وإني أذكر ما تحدث عنه الأخ الدكتور عبد الحميد الهرامة في رسالته لأني عايشت جزءاً من هذه الفترة ورافقت اشتغاله على تلك المخطوطات حيث كان طلب مني بعد أن رقن مخطوط “روضة الأزهار” لكريم الدين البرموني عن الشيخ عبد السلام الأسمر أن أراجع النص المرقون وأقابله بالمخطوط. كان النص ضخماً في عشرات الصفحات، لكني عكفت عليه ما استطعت، وقمت بما وفقني الله إليه. وإني أشكر الله تعالى وأشكر أخي الدكتور عبد الحميد الهرامة أنه طلب مني القيام بهذه المهمة الجليلة لأني استفدت استفادة عظيمة من تلك الرسائل النادرة. فقد وقفت فيها على معلومات نفيسة لا توجد في مخطوط غيرها عن حياة أبي الحسن الششتري. وقد كنت وقتئذ بصدد كتابة رواية “بلاد صاد” التي خصصتها لهذا الشاعر الصوفي الأندلسي المغربي، فأفدت من تلك الرسائل في الوصول إلى معلومات دقيقة أوضَحَتْ جانباً غامضاً ومجهولا من حياته خلال القرن السابع الهجري، ضمنت بعضها في البيان الذي قدمت به للرواية، ووظفتها في هذا العمل الإبداعي، وفي أعمال علمية أخرى، كان آخرها بحث شاركت به في الكتاب الجماعي الذي صدر هذه السنة بعنوان “التصوف المغربي مصدر إشعاع وتواصل، أعمال مهداة إلى الأستاذة نفيسة الذهبي” بمناسبة تكريم الأستاذة المحققة نفيسة الذهبي في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة ابن طفيل بمدينة القنيطرة.

وعلاقة بهذا الموضوع، فقد ساقني الحديث بعد ذلك مع الدكتور عبد الله المرابط الترغي للحديث عن كتاب “المقصد الأحمد” الذي ألفه الأديب عبد السلام القادري للتعريف بشيخه أبي العباس أحمد بن عبد الله مَعَن الأندلسي، فذكر لي بأنه لا يتوفر عليه، لكن بحوزته مصنف آخر لنفس المؤلف أرَّخ فيه لرحلة الشيخ مَعَن إلى الحج التي رافقه فيها تحت عنوان “نسمة الآس في الرحلة مع أبي العباس”. وقد سلمني الدكتور الترغي مشكوراً هذا المصنف في مصورتين، إحداهما مخطوطة، والأخرى مرقونة من عمل أحد طلبته. عكفت على النص فوجدت فيه معلومة قيمة حول قبر الششتري الذي كان مجهولا لدى كل من أرّخ لحياته، حيث يذكر القادري في “نسمة الآس” أنه كان يرافق الشيخ ابن معن لزيارة قبر أبي الحسن الششتري في حي الموسكي كل خميس أثناء إقامتهما بالقاهرة، وأنهما التقيا بحفيده وأنشدهما من شعره. وقد قمت بزيارة إلى القاهرة قبل وقوع هذا المخطوط في يدي، ووفقني الله أن أمر بحي الموسكي ورأيت هناك مسجداً صغيراً مكتوب على واجهته “مسجد حسن التستري المعروف بأبي الحسن الششتري” فطلبت من رفقائي أن أصلي فيه. فلما ولجته ألفيتُ داخله قبراً قديماً تبيَّنَ لي بعد التحقيق ومقابلة المصادر ودراسة اللوحة القديمة التي تؤرخ لبناء المسجد في العهد المملوكي وفكِّ كلماتها، أنه قبر الششتري بكل دقة علمية، خلافاً لكل المصادر التي ترجمت له وذكرت أنه مدفون بدمياط.

وبعد عودتي من تلك الزيارة أكرمني الله على يد الدكتور عبد الله المرابط الترغي بمصورة “نسمة الآس في الرحلة مع أبي العباس”، و”روضة الأزهار” لكريم الدين البرموني من الأخ عبد الحميد الهرامة. فكان ذلك دليلا علمياً ملموساً لما شاهدته قبلها في القاهرة، وتوصلت إليه بمحض العناية الإلهية.

فإن كان من فضل لي في هذا العمل، فلا شك أنه سيق إلي من يد المرحوم بكرم الله الأستاذ الدكتور عبد الله المرابط الترغي، ربط الله على قلبه وأدخله الجنة بفضله، ورزق أهله وذويه وطلبته وزملاءه الصبر والسلوان.

د. عبد الإله بن عرفة

19 شعبان 1436 / 07-6-2015

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *