من الحركة الإنسانية إلى الإصلاح الديني - نظرات في الخبرة الغربية

الرئيسية » الأعمدة » تأملات فكرية » من الحركة الإنسانية إلى الإصلاح الديني – نظرات في الخبرة الغربية

من خلال الثغرات والشقوق الكثيفة التي ترتبت عن “أزمة نظام السيطرة الكنسية” سوف تتبلور قوى التغيير. وفي صدارة هذه القوى الحركة الإنسانية Humanisme التي ظهرت منذ القرن الرابع عشر في بعض المدن الإيطالية بدعم من الأمراء وكبار التجار المولعين بالفن والأدب والباحثين عن الشهرة والمجد، بل ومن بعض البابوات كذلك.

وقد أسهمت هذه الحركة، بعودتها للأدبيات اليونانية والرومانية القديمة منتهلة من الموارد الأصلية للفكر والأدب الكلاسيكيين، في تجاوز سلطة المرجعية الكنسية، وإعادة اكتشاف الإنسان ومركزيته في بناء نظام فكري جديد يقوم على الفلسفة بدل اللاهوت، ونظام سياسي يقوم على الدولة بدل الكنيسة..

إن المتابع للفكر الغربي الحديث والمعاصر يلاحظ بجلاء أن هذه العودة للأصول لم تكف كلما حلت أزمة عميقة أو لاحت في الأفق؛ وفي هذا السياق كان الرجوع للتراث الفلسفي الكلاسيكي في توافقه مع التراث الديني للعصور الوسطى المسيحية لفهم وتقييم وعلاج أزمة الحداثة هو عنوان مشروع الفيلسوف ليو شتراوس Léo Strauss 1899-1973، خاصة في إطار رده على إيديولوجيا “النهايات”؛ نهاية الإنسان، نهاية العقل، نهاية الأخلاق، نهاية الدين، نهاية التاريخ.. تعبيرا عن نـزعة عدمية عميقة تكشف عن مدى الأزمة الفكرية والروحية التي تعاني منها المجتمعات الغربية، وهو ما ينسجم مع اعتباره أن الحداثة تتشكل من ثلاثة مكونات؛ الفلسفة السياسية الكلاسيكية، والفلسفة السياسية الحديثة، فضلا عن الشريعة الدينية…

إن أكثر ما يهمنا، هاهنا، أن هذه الحركة قد شكلت أول خطوة حاسمة في اتجاه بناء أسس التفكير العقلي الحديث، وإعادة النظر في قواعد تنظيم المجتمعات السياسية والاجتماعية.

غير أن حركة الهدم البطيء لنظام السيطرة الكنسية سوف لن تقتصر على المستوى الفكري والأدبي التي جرى النظر إليه، ضمن تاريخ الفكر، بمثابة اللحظة التأسيسية للغرب الحديث بأكمله، في تجاوز متحيز لكل ما أسهمت به الحضارة الإسلامية في الفضاء المتوسطي والأوروبي خاصة من خلال الأندلس الرشدية والدولة العثمانية، وإنما سيتجاوزه إلى الإصلاح الديني الذي يرقى إلى مستوى الثورة الدينية التي ستغير تصور أوروبا للدين ومكانته في حياة الفرد والمجتمع على حد سواء.

وسواء ارتبطت هذه الثورة الإصلاحية بحادث تعليق مارتن لوثر لقائمة أطروحاته الـ95 على باب كنيسة قصر وتنبرغ سنة 1517، أو بواقعة طرد الكنيسة لمارتن لوثر سنة 1520، واعتباره خارجا عنها، بسبب دفاعه عن فكرة أن البابا والمجمع الكنسي ليسا معصومين من الخطأ وأن المؤمن لا ينبغي أن يلتزم إلا بالكتاب المقدس، إلا أن ما يهمنا التركيز عليه في هذا المقام أن الإصلاح الديني قد أسهم بشكل واضح في إعادة بناء التجربة الدينية للجماعة المسيحية على ثلاثة أصعدة؛

صعيد المؤسسة الكنسية..وصعيد الفكر التي كانت تؤسس عليه الكنيسة سلطتها، سيطرتها ونفوذها، بما في ذلك من اعتقادات دينية وفلسفة إيمانية أو لاهوت.. وصعيد الضمير الديني وما يحيل إليه من إعادة تحديد لمغزى الإيمان ومقتضيات الاعتقاد، وممارسة الشعائر الدينية، وكذا إعادة الاعتبار للتجربة الدينية كتجربة فردية تتصل، أول ما تتصل، بوعي المؤمن وإرادته وتطلعاته..

كما أن أكثر ما يهمنا هاهنا هو تجلية دور هذا الإصلاح الديني في تحجيم دور الكنيسة وتقليص صلاحيات رجال الدين؛ من خلال رفض الخضوع الأعمى للكنيسة والانقياد لها كسلطة كهنوتية؛ إذ لا شك أن هذا التحجيم تجلى، أكثر ما تجلى، في إحلال لوثر والفكر الاحتجاجي بوجه عام، سلطة النص المقدس محل سلطة الكنيسة المطلقة..

بحيث أن تأكيد أولوية النص على المؤسسة الكنسية في تعبيرها عن سلطة الرهبان ترتب عليه تغيير جوهري في مفهوم ومكانة الكنيسة نفسها؛ فقدت على أثره مركزيتها في التجربة الدينية، كما فقد رجال الدين مكانتهم الأبوية المقدسة الاستثنائية التي طالما فصلتهم عن عموم الناس وميزتهم عنهم من حيث امتلاك المعرفة والنفاذ إلى جوهر الدين وحقيقته..

ليصبحوا مجرد “رجال اختصاص.. لا فرق بينهم وبين المؤمنين العاديين إلا في درجة التفقه في الدين، وهو ما يستطيع أي مؤمن أن يصل إليه بجهده الشخصي”، ومثلما اضمحلت الفكرة التي تجعل من الكنيسة امتدادا للمسيح وتجسيدا لكلمته، اضمحلت بالمثل الفكرة التي درجت على النظر إلى رجل الدين بوصفه وريثا للمسيح وحائزا على قبس منه.

إن ما مثل أفقا للإصلاح، في سياق التجربة التاريخية الغربية، وترتبت عنه ثورات بالغة الكلفة من الوجهتين المادية والإنسانية، شكل معطى عقديا و مكتسبا حضاريا في التجربة العربية الإسلامية، وهو ما يجعل أولويات الإصلاح ومنطلقاته ورهاناته مختلفة.

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *