من الحداثة إلى ما بعد الحادثة

الرئيسية » الأعمدة » تأملات فكرية » من الحداثة إلى ما بعد الحادثة

يتميز مفهوم “ما بعد الحداثة” بقدر غير يسير من الغموض والتشوش، حيث يجري إطلاقه على الكثير من الأمور المتناقضة لدرجة أنه يبدو بلا معنى . غير أن هذا لا يمنع من النظر إليه كبؤرة تتداخل فيها ثلاثة عناصر أساسية يتعلق العنصر الأول بالردة التي تطورت خلال العقود الأخيرة على الحداثة، أما العنصر الثاني فيتمثل في انطواء ما بعد الحداثة على تيار فلسفي ( ما بعد بنيوي ) عبرت عنه مجموعة الفلاسفة الفرنسيين الذين لمع نجمهم خلال الستينيات وخاصة “جيل دولوز” و”جاك دريدا”، “وميشيل فوكو”، وقد بلوروا جملة من الأفكار أهمها: رفض التنوير، إلغاء الذات واعتمادهم لتصور انفصالي وفوضوي للزمن وإلغاؤهم، تبعاً لذلك، لكل مركزية دفاعا عن التشتت والفوضى، وإحلالهم الاختلاف محل الهوية واعتبارهم أن العقل والحقيقة محض وهم، وبالتالي فالنظريات العلمية ما هي إلا منظورات تعبر عن مصالح اجتماعية خاصة.

أما العنصر الثالث من عناصر ما بعد الحداثة فهو “نظرية المجتمع بعد الصناعي” التي طورها علماء اجتماع مثل “دانييل بيل” في أوائل السبعينيات، حيث ذهب إلى أن العالم يدخل عصراً تاريخيا جديداً سوف يصبح الإنتاج المادي فيه أقل أهمية، بينما تغدو المعرفة فيه هي القوة الدافعة الرئيسية للتطور الاقتصادي.

غير أن جان فرانسوا ليوتار سيذهب إلى حد القول بأن المعرفة في “الوضع ما بعد الحداثي” تتخذ شكلا مجزءا بشكل متزايد متخلية عن كل دعاوى الحقيقة أو المعقولية وهو ما عبر عنه بـ “انهيار الروايات الكبرى”، معبرا عن تشككه وعدم وثوقه في كثير من الأسس والمبادئ العامة والتصورات الكلية والشاملة التي سادت عصر التنوير ووجهت الفكر الحديث لقد لاحظ ليوتار أن العالم يمر بمرحلة تتميز بما أسماه “الانفجار الاتصالي عن بعد”، وأنه يشهد تفكك المذاهب والنظريات والاتجاهات الفكرية الكبرى ويعاني من غياب أو اختفاء أنساق المعتقدات التي توجه الإنسان في تفكيره وقيمه وسلوكياته وعلاقاته بالآخرين. 

فإذا كانت محاولة تشخيص الحداثة تبدو أكثر يسراً، حيث كان بالإمكان الإمساك بها من إحدى مفاصلها الأساسية؛ فقد نظر إميل دوركهايم مثلا إلى المجتمع الحديث من زاوية التمايز الوظيفي المتنامي ، ونظر ماركس إلى نفس المجتمع من حيث توسع دائرة البضائع والانتشار الواسع والسريع للتسليع المعمم، كما نظر ماكس فيبر إلى المجتمع الحديث من حيث خضوعه لعملية عقلنة حسابية تتوسع بالتدريج لتشمل كل دوائر الحياة الاجتماعية..إذا كان الأمر كذلك، بالنسبة للمجتمعات الحديثة فإن مجتمع ما بعد الحداثة بلغت فيه العمليات السالفة الذكر (التمايز، التسليع، العقلنة) ذروة تداخلها، المفضي إلى حالة من الغموض والتعقيد الشديدين. 

لكن هل جملة هذه التحولات تسمح بالجزم أن العالم بصدد عصر جديد؟ الواقع أن هناك مواقف بالغة التباين بهذا الصدد، فهناك الإدعاء الأصلي لمعظم رواد ما بعد الحداثة، الذي يشدد على حدوث قطيعة فعلية بين مرحلتين مرحلة الحداثة ومرحلة ما بعد الحداثة. وهناك من يذهب خلاف ذلك أن “ما بعد الحداثة” لا تمثل بأي حال عصرا أو مرحلة جديدة كل الجدة بالنظر إلى الحداثة، وللتدليل على ذلك يثبت إليكس كالينيكوس عدم وجود فن ما بعد حداثي بشكل متميز، كما ينفي اجتياز المجتمعات الغربية لعصر تاريخي جديد بدعوى تدويل رأس المال ، فرغم أن رأس المال قد أصبح مندمجا بشكل عالمي أكثر فأكثر إلا أن الدولة القومية ما تزال تلعب دوراً اقتصاديا حيويا. فما بعد الحداثة بالنسبة لهذا الفريق ما هي إلا تعميق لمسار الحداثة، أو هي سرعة ثانية للحداثة. بمعنى أنها استمرار لمنطق الحداثة ونقد وتجاوز مستمر لذاتها، من منطلق أن “الحداثة مشروع لم يكتمل بعد” على حد تعبير هابرماس.

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *