حظي تراث الأمة منذ عقود من الزمن بعناية العلماء والمفكرين والباحثين، حيث تعددت رؤى ومناهج وزوايا النظر إلى هذا التراث بحسب تنوع المشارب واختلاف السياقات، وبحسب الحاجة الملحة إلى إيجاد حلول لإشكالات الحاضر، إذ لم تكن العودة إلى الماضي كليا أو جزئيا،قراءة وتأولا، إلا استجابة للتحديات الكبرى التي واجهها المعبرون عن ضمير الأمة مهما اختلفت توجهاتهم أو توظيفاتهم التي ضغطت وتضغط على حاضرهم.
غير أن الجديد في هذه المسألة هو التفكير في التراث من جهة أفقه المستقبلي واستشراف مآله، بعد أن كانت العودة إليه عنوانا للانحسارية والانغلاقية في زوايا الماضي الذي ولى، أوفي أحسن الأحوال توظيف ما تبدى منه نافعا لتبرير قضايا الحاضر ما دامت الجماهير متشبثة به بوعي أو بغير وعي.
إن التفكير في التراث بهذا البعد الاستشرافي والمستقبلي يعبر عن تجديد للنظر في التراث نفسه، وإخراجه من البعد الزمني ليأخذ مكانه باعتباره فكرا حيا يشكل تقليدا للأمة وليس مجرد ميراث أو تركة خلفها غيرنا لنا، بل هو ضمير تتساكن فيه أمور مستنفذة وأوراش مستأنفة وإشكالات منفتحة على التجديد والإبداع مازالت أماني لم تجد من يسير بها إلى أبعد مدى من الإحياء والابتكار، فليست الحداثة دوما دالة على الحاضر، فكم من خطاب معاصر مغرق في الماضوية، وكم من لمعات الماضي هي في غاية الحداثة والجدة.
لقد كان الباعث على هذه الأفكار هو اللقاء العلمي الدولي الذي نظمه معهد المخطوطات العربية بتعاون مع الرابطة المحمدية للعلماء حول مشروع التراث ومشروعيته وسؤال التجديد، بغية الخروج برؤية منهجية وبحثية علمية ترسم فلسفة جديدة للتراث مفهوما وتأثيلا، ووظيفة وإبداعا. مما يمنح مثل هذا المنتدى العلمي جديته وجدته، إذ رسم طريقا للإشكالية التراثية متحررا من هيمنة هواجس الماضوية، إلى ضرورة البحث في التراث باعتباره تقليدا قابلا للتجديد، مما يكسبه أبعادا كبرى تجاوزت تراث البحث في التراث نفسه، فالزمن الماضي كان حاضرا، والمستقبل سيصبح هو الآخر حاضرا ومن ثم تعتريه أحكام الزمن ليصير ماضيا.
ومن ثم فإن إشكال استشراف التراث ينم عن وعي بصيرورة الزمن، وينبثق عن نظر للتراث بوصفه وعاء للهوية والخصوصية الحضارية للأمة، والتي يمكن التمييز فيها بين الثوابت والمتغيرات والحاجة القصوى لتجديد النظر فيها باعتبار الأصول والتحولات التي يعرفها السياق والذي يظهر كفاءات المجتهدين في إدراك هذه اللحظات الفارقة التي بها يصبح التراث حيا وحاضرا قابلا للإحياء والإبداع.
وبخصوص التصوف، فقد كان وما يزال مثار جدل تتكرر فيه طروحات الممالئين والمناوئين منذ قرون، طروحات تجعل هذا الصنف أوذاك يستدعي التراثيين في غياب للحاضر الذي يستعيد استئناف السؤال حول التراث الصوفي منهجا ومضمونا وبحثا عن آفاق مستقبلية يمكن أن تسعف في إيجاد سبل لتجديد منظومة العلوم الإسلامية.