في ترشيد العلاقة بين الدين والسياسة (2)

الرئيسية » الأعمدة » تأملات فكرية » في ترشيد العلاقة بين الدين والسياسة (2)

استكمالا لما طرحناه في مناسبة سابقة نخلص إلى أن جوهر حل مشكلة العلاقة بين الدين والسياسة في كل مكان وكل زمان يتوقف على بلورة قاعدة ثابتة وواضحة لتوزيع السلطات الاجتماعية بما في ذلك تدبير الشأن الديني.. وتوزيع السلطات هو التعبير عن توزيع المهام والمسؤوليات في تسيير وتكوين النظام الاجتماعي، وهو بالتالي أساس هذا النظام وبدونه لا يمكن أن يعيش المجتمع إلا في حالة التخبط والصدام الدائم بين الصلاحيات والسلطات المتعددة.

علما أن الأمر لا يتعلق بمسألة اختيار بين قيم ومنظومات قيم دينية وغير دينية، وإنما هي مسألة عقلنة الممارسة الاجتماعية، انطلاقا من أن المجتمع كل واحد لا يتجزأ، وبالتالي لا يمكن الفصل فيه على المستوى الموضوعي، بما هو صيرورة تاريخية متكاملة ومتداخلة بين الدين والسياسة والاقتصاد والمجتمع والأخلاق والاعتقاد، ولكن مادامت هذه الصيرورة تزخر بتعدد القوى والسلطات والمصالح والأهداف؛ فقد أضحى من اللازم إبداع نظام يعمل على ترتيب وتدبير العلاقة بين هذه السلطات، وتحديد قواعد التعامل فيما بينها كشرط مسبق لاستقرار وتوازن النظام المدني العام. وهو ما نجح المغرب في إرساء قواعده، إلى حد بعيد، من خلال التوفيق الخلاق بين بنية دستورية ومؤسسية حديثة وعقلانية، ومرجعية دينية حضارية حاكمة تتمثل في المؤسسة الملكية وفي قلبها إمارة المؤمنين..

وقد أعطى هذا التوزيع في التجربة التاريخية العربية الإسلامية للدولة ممثلة في السلطان دور التحكيم، وهو ما كان يمدها بالشرعية في مقابل السلطة الدينية (الأهلية) التي تختص بخلق اللحمة والهوية الجماعية للأمة..

والواقع أن قدرا كبيرا من الاختلاط الراهن  في طرح مسألة العلمانية، ناتج عن عدم فهم مسألة العلاقة بين الدين والدولة كتوزيع للسلطات والصلاحيات، والنظر إليها من منظور التناقض بين قيم متناقضة؛ قيم الدين “القديمة والبالية” وقيم الدولة “الحديثة”. وأن هذا الاختلاط ما كان ليحدث إلا لأن الدولة أو الأحرى النخب الحداثوية القائمة عليها تشعر أنها حاملة لقيم مختلفة ومتناقضة مع قيم الدين، وهذا الشعور ما كان من الممكن أن يحصل لو لم تصبح الدولة في الكثير من مجتمعاتنا العربية الإسلامية جزءاً من السياق العالمي الجديد الذي نشأت فيه، وثمرة من ثمراته، أكثر مما هي التعبير الحقيقي عن الإجماع الوطني والإرادة العامة للأمة في أبعادها التاريخية والحضارية.. وهنا كذلك يمثل بلدنا استثاء لافتا للوعي بذاتيته التاريخية وخصوصيته الحضارية.

 ذلك أن الوضع الطبيعي يقتضي أن لا “يوجد بين دين مجتمع ما وسياسته تناقض جذري في القيم”؛ لأن السياسة لا تكون كذلك، ولا تكون مشروعة، إلا بقدر ما تطرح نفسها كوسيلة مدنية دنيوية لتحقيق الأهداف والقيم والمثل الاجتماعية النابعة من الإيمان والاجتهاد العقلي والأعراف والعادات المعبرة عن الحياة الاجتماعية النابضة للمجتمع. ولا تستطيع بأي شكل من الأشكال أن تقف ضد هذه القيم أو تقوم بمجابهتها وتبقى؛ أي أنها إذا فعلت ذلك فسيكون مصيرها الزوال.. 

فالقيم السياسة لا يمكن أن تصدر عن شيء آخر غير معتقدات المجتمع وإيمانه، وإلا أصبحت السياسة نفيا لهويته الوطنية، وليست مجرد تمييز بين مهام رجال الدين ومهام رجال الدولة. وفصل بين صلاحيات لا بين أنماط وقيم عيش.

إن الأخلاق التي تقتل حب الحياة ليست أقل أو أكثر خطراً من تلك التي تقتل وجدان الألفة والمودة الجماعية المؤسس للتضامن والتعاون والمساواة والحرية، كما أن ضمان التوازن بين المبادئ الملهمة وضرورات الممارسة العملية، وبين المصالح الفردية الجماعية، هو السبيل إلى تربية حس التمييز بين الأهداف ذات الطبيعة السياسية (الدنيوية) والأهداف ذات الطبيعة الأخروية (الدينية)، ويعمق الإدراك بأن الأرض لا يمكن أن تكون ميدان تحقيق المطلق، وإنما هي مرتبطة بالنسبي، وهو موضوع السياسة إذا أردنا للسياسة أن تقوم وتكون.

فما لم تعد الدولة مركز تسويات واقعية ممكنة وفعلية: أي دولة سياسية، فإن النـزوع إلى عالم المطلق الديني في السياسة أو التسامي بالسياسة إلى مستوى الأهداف المقدسة التي لا يمكن تحقيقها على الأرض، والتنكر للواقع الملموس وتجاهله، سيكون هو الرد الطبيعي، بل الثأر الطبيعي، من دولة اللاسياسة واللادين. وسوف تتحول في الذهن إلى ميدان لتحقيق مثالي وتصعيدي للعواطف والحاجات الملموسة بقدر ما يعجز الواقع العملي عن تحقيق هذه الحاجات.

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *