فلسفة العمل في العصر الرقمي ركيزتها تكامل الإنسان والآلة

الرئيسية » حياة وتكنولوجيا » فلسفة العمل في العصر الرقمي ركيزتها تكامل الإنسان والآلة

فلسفة العمل في العصر الرقمي ركيزتها تكامل الإنسان والآلة

يتشارك كثيرون في العصر الرقمي، سواءً أكانوا في مقتبل العمر أم حتى في الشيخوخة، الرغبة في العمل والاستمرار فيه. وبديهي القول إن ذلك الوصف ينطبق أيضاً على عصور سابقة على الأرجح. إذ لطالما رغب الجميع في العمل سعياً لكسب الرزق وشراء الطعام والملابس وأشياء نحبها وتضفي على حياتنا بهجة ومتعة، ما يجعلنا نستمتع بالحياة بدنياً وذهنياً.

استطراداً، هناك اتجاهات عديدة لرصد تغيّر بيئة العمل في العصر الرقمي وتأثيرها على الإنسان. وفي ذلك المجال، يبرز رأي روبرت براون، وهو خبير كندي في الأعمال الرقمية، وهو يرى أن الذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence الذي كان إلى وقت قريب مجالاً لنظريات أكاديميّة وحبكات سينمائيّة في أفلام هووليوديّة، بات واقعاً تعيشه المجتمعات المعاصرة يومياً. ويلاحظ براون أن ذلك الأمر أقلق مجاميع من العاملين في عدد من مجالات العمل، خصوصاً أن الذكاء الاصطناعي يوجد حاليّاً في عدد كبير من مجالات العمل كقراءة صور «أشعة إكس» والتصوير بالرنين المغناطيسي، وإدارة أنواع من التعاملات في بورصات الأوراق الماليّة وغيرها. وتشي تلك المعطيات بقرب تمدّد الذكاء الاصطناعي إلى معظم أنواع الوظائف والحِرَف والأعمال التي يمارسها البشر في أرجاء العالم.

ويعتقد براون أيضاً أن تلك المعطيات أثارت أنواعاً من القلق لدى من يتابعونها، خصوصاً في البنوك والخدمات المرتبطة بالتبادلات الماليّة والاقتصاديّة. وحاضراً، تتوغل خدمات الإنترنت البنكيّة عبر الشاشات الرقميّة المتنوّعة والهواتف الذكيّة، إلى درجة بات معها ممكناً الاستغناء عن الذهاب إلى البنك. ويخلص ذلك الخبير الكندي إلى رسم معالم مستقبل كئيب تختفي فيه تدريجاً الكفاءات التكنوقراطية البشرية، وتحل محلّها آلات مزوّدة بذكاء اصطناعي متقدّم.

وظائف سادت ثم بادت

يذكّر الأمر على الفور بشاشات الأفلام السينمائيّة التي كانت حتى ستينات القرن العشرين تظهر عاملات في سنترالات الهواتف يقمن بتحويل المكالمات الهاتفيّة من متكلم إلى آخر. واختفت وظائفهن تلك، مع تصاعد التطوّر التكنولوجي. ومن وحي تقاليد محليّة، تبرز وظيفة «المسحراتي» التي أفقدت التكنولوجيا دورها. إذ كانت وظيفة «المسحراتي» تقضي تقليدياً أن يوقظ الناس عند السحور في شهر رمضان، ثم انتقلت مهمة الإيقاظ إلى الآلة، لكن تلك الوظفية بقيت فولكلوراً يُستعاد بصورة أو اخرى.

ربما ليس جديداً القول إن التكنولوجيا تحل مشكلات للبشر، وتصنع مشكلات أخرى. وفي مقلب آخر من الصورة، ثمة وظائف برزت في سياق ثورة المعلوماتيّة والاتصالات المتطوّرة، لكن لو أنها ذُكِرَتْ للناس قبل عقدين، لاعتقد السامع أمرها طرفة مضحكة. من الأمثلة على ذلك وظيفة محلّل البيانات على «تويتر» أو مطوّر للنظم الرقميّة أو مصمّم التطبيقات للـهواتف الذكيّة وغيرها. ألم تكن تلك الوظائف أقرب إلى الخيال في ماضٍ ليس ببعيد، ثم صارت واقعاً يعيشه الناس بسهولة.

في ذلك السياق، تحضر أيضاً الطبيعة الإنسانية وعلاقتها ببيئة العمل. إذ يؤدّي ملايين الناس أعمالاً مُمِلّة وسيئة وأحياناً مملؤة بالمخاطر. هل هناك أمل بأن يؤدي التطوّر في مجال العمل وبيئته دوراً في تحرير بيئة العمل من الملل، فتصبح ممتعة ومربحة ومُرْضِيَة؟

ماذا عن إدمان التعامل مع شاشات الكومبيوتر والتحكّم من بُعد في كل شيء؟ هل يتحكّم إنسان في الهند في حركة البشر وقدراتهم في أفريقيا أو حتى شوارع نيويورك؟ هل يمكن للآلات أن تقوم بكل شيء أم يبقى للإنسان دوراً لا تستطيع الآلة إنجازه؟ بالاختصار، هناك أسئلة عدّة بات يطرحها ما يسمّى بـ «علم اجتماع الإنترنت» Internet Sociology، بل يفكر فيها فلاسفة ومفكرون يتساءلون عن معنى الحياة وغايتها في البيئات الرقميّة.

قائمة غير حصريّة بالمتغيّرات

في ذلك السياق، لا بد من الإقرار بأن ميزة الإنسان الكبرى إنّما تتمثّل في الفضول، وهو ما تفتقده الآلات الذكيّة حتى الآن، فهي لا تطرح أسئلة وليس لديها خيال، لذا يرجح أن يستمر الإنسان في رغبته في الاستكشاف وصناعة المستقبل. يكفي أن نتذكّر أن الفضول هو الذي دفع الإنسان لاستكشاف كواكب خارج الأرض، وحفز جموح البشر على اكتشاف الجديد في العلم، ما أدى بالتالي إلى اختراع الكهرباء والســـيارات والطائرات والغواصات وغيرها. حاضراً، نرى أن الآلات تقدّم حلولاً للعدد من المشكلات، لكنها تولّد أيضاً مشكلات يعمل على الإنسان العمل على حلّها.

في ذلك المفصل، يجدر الإقرار أيضاً بأنّ الإنسان في حاجة دائمة إلى الإحساس باللمسة الإنسانيّة، إذ يصح القول إننا نحتاج إلى التكنولوجيا كأداة تساعدنا لكننا لا نريدها لذاتها، بل تكون غايتها المساعدة علىل الارتقاء بحياة الإنسان وليس سلبه أعز ما يملك في إنسانيته!

إذاً، تؤدّي التكنولوجيا دوراً في التقريب بين إنسان وآخر، وتخدم البشر بيسر. وفي المقابل، يسهل ملاحظة أنها غيّرت عدداً من الوظائف المرتبطة بخدمة الإنسان. وفي مايلي بعض الأمثلة على ذلك:

– الرعاية الصحيّة

صارت الرعاية الصحيّة المدعومة بالذكاء الاصطناعي متاحة على نطاق واسع ويزداد الطلب عليها. ويفيد ذلك في رفع مستوى العناية بالمرضى، إذ يستخدم فنّيو الرعاية الصحيّة الذكاء الاصطناعي في فحص المرضى وتشخيص الأمراض وصف العلاج المناسب، وتقديم رعاية ملائمة وغيرها. كذلك يستطيع الأطباء التواصل مع مرضاهم عن بُعد، ونقل معارف صحية متطوّرة إلى مناطق نائية. ولا شرط في ذلك سوى إتقان استخدام الآلات الرقميّة، والقدرة على بناء علاقات قائمة على الثقة مع المرضى.

– حياكة رقميّة

مع وجود نسب عالية من مرتجعات الملابس التي يجري شراؤها على الإنترنت بسب مشكلات المقاس، يتحول تجار الملابس على الإنترنت في شكل متزايد إلى الخياطة الرقمية. وظهرت غرف مقاسات رقمية تعتمد على مجسّات استشعار تعمل عن بُعد وتحصل على مقاسات الزبائن بدقة، كي يحصلوا على ملابس مناسبة. وبعد تجميع البيانات عن المقاسات، تخزّن المعلومات على الإنترنت باستخدام تقنية «حوسبة السحاب». وبعدها، يصبح ممكناً للخياط الرقمي العثور على ما يناسب مقاسات الزبون وذوقه وميوله في الموضة وغيرها، بل وصولاً إلى تفضيل ماركات لبيوت أزياء معيّنة وغيرها.

– الإنسان والآلة

يرجح أن يكون التعاون بين الإنسان والآلة هو العمود الفقري لقوة العمل مستقبلاً. وتالياً، من يستطيعون الجمع بين نُظم التشغيل الرقميّة وإدارة الروبوتات، يبرزون بوصفهم متمتعين بالدقة والتحمل والقدرة على إدارة العمليات المعقّدة والسرعة في اتخاذ القرار، إضافة إلى امتلاكهم ميزات البشر كالإدراك المعرفي والتفكير المنطقي والتحليلي والعواطف والأمزجة وغيرها.

ويضحي أولئك المتقدّمون في المرتبة الأعلى طلباً في سوق العمل المستقبلي، وتكون مهمتهم تطوير نظام التفاعل الذي يمكن من خلاله للآلات والبشر التواصل في شكل مشترك. ويحتاج النهوض بذلك الدور إلى ابتكار نظام لتحقيق التعاون بين الإنسان والآلة، ما يمهد لظهور نظام هجين بين الإنسان والآلة يعمل على تطوير متبادل للطرفين. وثمة رهان على تأثير إيجابي لذلك المعطى على الاقتصاد والرفاة في المجتمع.

كخلاصة، نعيش حاضراً مرحلة انتقال إلى عالم يغاير كل ما عاشته الإنسانيّة في حقبها التاريخيّة المعروفة. أين يكون الإنسان في ذلك العالم؟ ما هو دور علم النفس في إعادة بناء الإنسان في حضارة تعمل على مزجه باستمرار مع المعطى الرقمي؟ الأسئلة كثيرة.

خالد عزب – الحياة

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *