فقهنا، نحن، والواقع (1/2)

الرئيسية » الأعمدة » بصائر » فقهنا، نحن، والواقع (1/2)

 لا يختلف اثنان اليوم أن من أبرز سمات عالمنا الراهن التركيب والتداخل والسرعة وفداحة وكِبَر الآثار التي تترتب عن التصرفات بسبب ذلك. ومن هنا فإن من مقتضيات العيش في العصر الراهن القدرة على استيعاب هذه السمات من جهة، ثم القدرة على التجاوب معها بفعالية وإيجابية من جهة ثانية.

ومن أكبر الإكراهات التي يحياها إنسان القرن الحادي والعشرين، عدم التماهي الكلي بين مظاهر الحياة المعاصرة والمبادئ التي يعتقدها ويمكنها في حنانه.. بسبب أن الاقتصاد والتدبير قد سارا في اتجاهات لم يكن يُقام فيها اعتبار للقيم وللأخلاقيات؛ بيد أن هذه الأخلاقيات وهذه القيم وهذه المبادئ بقيت كامنة وأحيانا نابضة، في أنفس الناس وفي أذهانهم. وقد استحرَّ النقاش منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، حول وجوب إعادة إدخال القيم ethics إلى الجوانب الاقتصادية والتدبيرية من أجل رأب هذا الصدع. والسؤال هنا هو: كيف يمكن أن تُدخل القيم، وكيف يمكن أن تُدخل المبادئ والأخلاقيات مرة أخرى إلى الجوانب الاقتصادية والتدبيرية التي تغطي أكثر ساحات النشاط الإنساني الفكري والعملي؟

وفقهاء الشريعة الإسلامية ليسوا في معزل عن هذه الإشكالات، وعن تأثرهم بهذه السمات الحضارية المشتركة والعامة.

ومن هنا؛ فإن ثلاث مشاكل رئيسة تعترضهم اليوم:

المشكلة الأولى: هي كيف يُفقه النص، وما هي آليات وضوابط فقه دينامي متجدد ووظيفي للنص؟ وكيف يمكن التمييز بين الثابت في اجتهادات السابقين وبين ما هو قابل للتحول والتغير؟. وقد سبق أن قال ابن القيم رحمه الله في كتابه إعلام الموقعين: فصلٌ في تغير الفتيا بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والعادات والأعراف.. قال: وهو فصلٌ عظيمُ النفع جدا قد دخل على الناس من فرط الجهل به ضررٌ عظيم. فما هي آليات وضوابط التمييز بين الجوانب الثابتة والجوانب القابلة للتجدد في الفقه الإسلامي؟، وكيف يمكن لفقيه الشريعة الإسلامية أن يطور آليات ومنهجيات التعامل مع هذه الجوانب كلها بنَفَس مقاصدي يروم جلب المصالح ودرء المفاسد باتزان؟

المشكلة الثانية: هي كيف يُفقه الواقع بكل سماته وبكل تمظهراته بالغةِ التعقيد والتركيب والتشابك، دون أن يكون هناك جور على أي سمة من السمات، احتذاء بقول من قال: ينبغي أن نجعل كل شيء أبسط ما يمكن وليس أبسط مما يمكن، وبأية مناهج وبأية آليات؟. وما هي التكوينات التي يقضيها كل ذلك؟

المشكلة الثالثة: في كيفية تنزيل أحكام النص المطلق المتجاوِز المهيمِن، بطريقة متوازنة، على هذا الواقع المنقلب المتغير العيني المشخَّص: موازنةً بين الأفعال، وترجيحاً بين المصالح والمفاسد في ضوء وعي شديد بوجوب اعتبار المآلات والعواقب؛ حتى لا تُجلب مفسدة عوض المصلحة التي كانت مقصودة، أو تُفوَّت مصلحة أكبر من أجل مصلحة أدنى.

وهو ما يستنبط من قول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في الحديث الذي رواه إمامنا مالك من طريق عائشة رضي الله عنها والذي فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لولا حدثان قومك بالكفر لهدمت الكعبة ولصيّرتها على قواعد إبراهيم“. ففوَّت عليه الصلاة والسلام هذه المصلحة (إعادة إقامة الكعبة على قواعد إبراهيم) حتى لا يجلب مفسدة هي أرجح من هذه المصلحة؛ أي افتتان الناس؛ لأنهم لا يزالون مرتبطين بعالم الأشياء، على حد تعبير مالك بن نبي.

 

يُتبع..

شارك:

التعليق “فقهنا، نحن، والواقع (1/2)

  1. |massarate

    ما أحوجنا إلى هذه المواضيع التي نعاني نحن الشباب من تشويش في فهمها،
    وخصوصا علاقة الفقه بواقعنا المتغير باستمرار، بارك الله في جهودكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *