العلم هو فن البحث الدائم عن جواب لسؤال مقلق يقض مضجع من انتسبوا إلى دائرته الذين لم يركنوا إلى العادة والرتابة، والتقليد والاجترار ولم يقنعوا بترداد مقولة “ليس في الإمكان أبدع مما كان”، بل حملوا أمانة النظر في الأنفس والآفاق من خلال السؤال تلو السؤال عن الماهيات والكيفيات والحيثياث والمآلات وغير ذلك من أضرب الإحاطة بالقضايا موضع الاستشكال والتدبر.
فلم تكن المعرفة طيلة تاريخها مجرد معلومات مطروحة في الطريق يتلقفها أيا كان، بل كانت مكابدة ومعاناة تصل إلى حد الاهتمام والاغتمام بحيث تستهلك أنفاس الأفذاذ من الأفراد من أجل فتح جديد يخلص الإنسانية من أوهامها وظلماتها ويجعلها تنعم بالحقائق وأنوار المعارف التي تضيء الدرب الحضاري الطويل.
إن للإنسان همة ينال بها ما يتعلق به مهما سما وعلا، وصعب ووعر، وزوده الحق عز وجل بالعقل الذي به يخترق طباق وطبقات الكون الصغير و الكبير باحثا عن أسرارهما بالتفكر والتدبر الذي ليس إلا عبارة عن فنون السؤال والمحاورة للمحيط الدني والقصي، ومن ثم فإن البيئات التي تعرف مثل هذا النشاط من التناظر والتباري في استجلاء ما خفي من غوامض الأسئلة، والكشف عن خباياها ومكنوناتها، قد سجلت حضورها ضمن كوكبة صناع العلم والمعرفة الإنسانيين.
فالحكمة ليس فقط في التجرؤ على السؤال، واستسهال أمره باعتباره نوعا من الاستفهام العادي الذي يميز الإنسان ككل ويعيشه جبلة وفطرة في مرحلة الطفولة، بل هو في هذا المقام أكثر نضجا وتأسيسا بل هو العلم ذاته، لأنه لا ينبثق أولا إلا من الإحاطة الشاملة بما سلف والوقوف على مداه وحدوده من أجل استئناف أسئلة ليست في حد ذاتها إلا تقويما وتجاوزا و استشرافا وفتحا لآفاق جديدة تستكشف المجهول من رحم المعلوم وهكذا في شبه رحلة لا نهائية تعترف بالمحدودية البشرية المشروطة بأحوال زمانها ومكانها مهما ادعت أنها بكل شيء محيطة، فأسئلة الأمس ليست هي نفس الأسئلة التي تطرح اليوم، ولن تطرح غدا، لأن العلم مذ كان وهو في مخاض دائم يولد علوما تفضي إلى عوالم أخرى لم تكن في الحسبان مما يفرض مراجعات تسائل البدهيات والفرضيات إذ يصبح السؤال، مع هذا التطور والتبدل، غير سابقه روحا ومعنى وإن شابهه صورة ورسما، فالأسئلة كالأوقات لا تكرار فيها، ولله في خلقه شؤون.
ولذلك قال توم سيغفرد وهو رئيس تحرير أعرق مجلة علمية متخصصة في العلوم في العالم
” إن إحدى الصفات المبدعة التي يجب أن يتحلى بها الباحث العلمي هي القدرة على طرح الأسئلة الصعبة” ومن ثم فإن ” كثيرا من الأسئلة العميقة قادت العلم إلى مجالات دقيقة، أكثر دقة وصغرا من عالم الذرات والجزيئات، أو إلى تفاصيل أكثر عمقا كامنة تحت شريحة عريضة من أجوبة الأسئلة الكبرى القديمة…وبالطبع فإن الأسئلة العظيمة ذاتها تتطور أيضا وذلك لأن الإجابات تولد أسئلة جديدة وأسئلة أفضل… فحيث يتلاقى الجهل والمعرفة وحيث يتقابل المعلوم والمجهول، هو المكان الواسع الذي صنع تقدم العلوم،…فالطريق بين العلم والجهل مفتوح على اتجاهين. فكلما تراكمت المعرفة، مقلصة من جهل الماضي، كلما ولدت أسئلة جديدة للبحث في مناطق جديدة مجهولة” 1.
1– مديح الأسئلة الصعبة، ألغاز العلم المحيرة، ترجمةد. عبد الله الحاج، كتاب المجلة العربية،188