علم الاستدامة: حشْـد الإمكانيــات

الرئيسية » حياة وتكنولوجيا » علم الاستدامة: حشْـد الإمكانيــات

علم الاستدامة: حشْـد الإمكانيــات

بَزَغَت شمس التنمية المستدامة دوليًّا في عام 1972 كمفهوم وممارسة، بالتزامن مع انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة المعنِيّ بالبيئة البشرية. وبعد مرور أربعة عقود، وفي العام الذي كان مقررًا فيه أن تحدد الأمم المتحدة أهدافها للتنمية المستدامة، كان مفهوم التنمية المستدامة لا يزال مفهومًا مبهمًا. يقدِّم جيفري ساكْس في كتابه «عصر التنمية المستدامة» The Age of Sustainable Development شرحًا يجعل هذا المفهوم أكثر وضوحًا. ومن وجهة نظري، يُعتبَر هذا الكتاب من أفضل ما كُتب عن التنمية المستدامة على الإطلاق، من حيث دقة المادة العلمية، وشموليتها.

المؤلف، جيفري ساكْس، عالِم اقتصاد شهير، ومفكر رائد في التنمية المستدامة، ومن كبار مستشاري الأمم المتحدة. والكتاب في قوامه يَعتمد على دورة تعليمية ممتازة، قدَّمها مجانًا عبر الإنترنت، وتحمل الاسم ذاته.

 يعرِّف ساكْس التنمية المستدامة بأنها «استراتيجية، أو رؤية موحدة»، تهدف إلى حل مشكلات عالمية، مثل التغير المناخي، من خلال الأهداف البيئية والاقتصادية والاجتماعية، فضلًا عن الحُكم الرشيد. ويوضح ساكْس أنه عِلْم تتداخل فيه نظم معقدة، كالاقتصاد العالمي، ومنظومة الأرض، والسياسات، والتفاعلات الاجتماعية، مثل شبكات الدعم، ووسائل الإعلام الاجتماعية.

كان يُنظر إلى التنمية المستدامة في السابق على أنها مشكلة تخص البلدان النامية فقط، ويمكن حلّها من خلال النمو الاقتصادي، كنتيجة ثانوية من ثماره، ولكن لا توجد دولة استطاعت إخراج نفسها من الفقر، دون استغلال الوقود الحفري، الذي تؤدي انبعاثاته إلى تغيُّر المناخ وزيادة التلوث، أو دون استخدام الأسمدة المعتمِدة على النيتروجين، التي تؤدي إلى ازدهار الطحالب. وقد عانت الدول الأكثر ثراءً من مشكلات عشوائية نمو الأراضي والموارد، وكان ذلك من عوامل فقدان التنوع البيولوجي. وبهذا المفهوم، أصبحت التنمية المستدامة أمرًا حيويًّا لجميع الدول؛ لا غِنَى عنه.

يقرّ ساكْس مزايا النمو الاقتصادي، مستشهدًا بالصين، التي حققت أكبر تحول اقتصادي في التاريخ، حيث انخفض معدل الفقر المدقع بين سكانها من %84 في عام 1981 إلى %12 فقط في عام 2010. ومع ذلك.. يوضح ساكْس في الوقت نفسه قيود النمو، من خلال التحديات التي لا تزال تؤثر على مليارات البشر، ابتداءً من قضايا الفقر، حتى الأمن الغذائي. وشرح ساكْس بعض الأسباب التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه الآن، مسلِّطًا الضوء على العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي تُبْقِي على الوضع الراهن، أو تجعل الأمور أسوأ، مثل القوى التاريخية والجغرافية والسياسية التي توسِّع دوائر الظلم وعدم التكافؤ في دول معينة، مثل الولايات المتحدة الأمريكية.

السؤال الآن: كيف يمكن إذَن تحقيق مستقبل مستدام؟ ويجيب ساكْس قائلًا إن التعليم هو الركيزة الأولى. فعندما تبقى البنات في المدرسة لفترة أطول، تنخفض معدلات الخصوبة. وتَستثمِر العائلات الأقل عددًا ـ من حيث الأطفال ـ في مجالات التعليم، والصحة، والتغذية. واستشهد بكلام عالِم الاقتصاد الاسكتلندي آدم سميث، في كتابه «ثروة الأمم» 1776 (The Wealth of Nations)، قائلًا إنه «بسبب استفادة المجتمع من تعليم الأفراد، سنعوض هذه التكاليف من خلال الإسهام العام من المجتمع ككل». وعدم تحقيقنا لذلك بعد مرور قرنين من الزمان لدليل إدانة جسيم ومخجِل.

بالإضافة إلى التحديات الاجتماعية، هناك تحديات أخرى، مثل التغير المناخي، وحموضة المحيطات، والانقراض الجماعي الحالي للأنواع والكائنات. وجميعها تهديدات خطيرة لقدرة البشرية على الازدهار، بل على قدرة البقاء والاستمرار. وعلى سبيل المثال.. يرتفع تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي بنسبة تتخطى جزءين في المليون سنويًّا. ويختتم ساكْس بأنه لا توجد دولة في الوقت الحالي على طريق التنمية المستدامة.

بات واضحًا أن فهم العلاقات بين هذه القضايا أمر أساسي للغاية. وبجانب أهداف التنمية، مثل الصحة العامة، والرعاية الصحية للسكان الذين تتزايد أعدادهم وتتقدم أعمارهم، هناك أيضًا التحديات البيئية، مثل الحد من التغير المناخي. ومن الضروري تحديد الحلول ذات المزايا الإيجابية، مثل تشجيع الناس على المشي؛ لتقليل انبعاثات الغازات الدفيئة من وسائل النقل التي يستخدمونها، مع الاستمتاع بالمزايا الصحية. ومن الأهمية بمكان أن نسعى لحل مشكلة ما، بدون استفحال وتفاقم مشكلة أخرى بسبب هذا الحل، لا كأنْ نعمل ـ على سبيل المثال ـ على تيسير استخدام الناس الطاقة الرخيصة من خلال حرق المزيد من الوقود الحفري الملوِّث للبيئة.

وقد أجهد هذا التعقيد والتداخل بين قضايا التنمية المستدامة ساكْس نفسه، مثلما أجهد الشركات والحكومات. وقد قسَّم ساكْس الكتاب إلى فصول تناقش عدة قضايا، مثل الصحة، والأمن الغذائي، والتغير المناخي، مما جعله يخفق في بيان الطبيعة التكاملية والتبادلية لهذه القضية المركّبة بكل تعقيداتها المرعبة. وفي الخاتمة، التي خصصها لأهداف التنمية المستدامة، عرض ساكْس رسالة أكثر وضوحًا، مليئة بالمعلومات، وأيسر فهمًا، مقارنةً بالمحاولات السابقة.

شرح ساكْس مزايا التنمية المحددة بأهداف واضحة، مثل حشْد المعرفة وشبكات الممارسة، لا سيما تلك الأمور التي تتضمن المجتمع العلمي، والجمهور، والسياسيين، والمؤسسات غير الحكومية. وشرَح كيف يمكن تمويل ذلك من خلال القطاعين (الخاص، والعام)، وتنظيمه عبر مبادئ المساءلة والشفافية والمشارَكة. وفي النهاية، أُنَوِّه بأن قراءة هذا الكتاب ـ في رأيي ـ واجب على كل سياسي، وعلى رجال الأعمال.

nature

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *