شرعية الاختلاف في الإسلام - 1

الرئيسية » الأعمدة » تأملات فكرية » شرعية الاختلاف في الإسلام – 1

لقد شكلت صحيفة المدينة أجلى نص دستوري اعترف لغير المسلمين جميعا بحق العضوية الكاملة بدار الإسلام، حيث اعتبرت بشكل صريح أن اليهود والمسلمين يشكلون أمة من دون الناس. وهي الحقيقة التي أكدها الكاساني على نحو جلي باعتباره أن “الذمي (يعد) من أهل دار الإسلام”. علما أن “دار الإسلام اسم للموضع الذي تحت يد المسلمين، وعلامة ذلك أن يأمن فيه المسلمون” وكل من كفلوه، وهو مفهوم تاريخي على كل حال.

وأهم ما في الأمر، أن الإسلام بمقتضى بنود الصحيفة لم يجعل من الدين معيارا حصريا للانتماء، بل جعل المعيار يكمن في الالتزام بشروط التعاقد الاجتماعي، وفي صدارة هذه الشروط عنصر “تحقيق الأمن”، وهو الأمر الذي أبرزه علماء الإسلام على نحو واضح وصريح، قال محمد بن حسن الشيباني: “إن المسلمين حين أعطوهم ذمتهم، فقد التزموا دفع الظلم عنهم، وهم صاروا من أهل دار الإسلام”.

 فمناط الاختلاف لا يكمن في الإسلام، بقدر ما يكمن في تحقيق مقصد الأمن والفزع؛ وتفسير ذلك أن الإسلام لم يميز بين المسلمين وغيرهم من منطلق الاختلاف العقائدي، وإنما انطلاقا من مدى الالتزام بمقتضيات العقد الموجب للانتماء لدار الإسلام ودولته وجماعته”.

وهو ما جعل اتجاها في الفقه الإسلامي المعاصر يعتبر أن الانتماء أو المواطنة ليست تصنيفا على أساس الدين، وإنما على أساس المسالمة والمحاربة؛ لأن الإسلام اعتبر أهل الأديان الأخرى المسالمين من أهل دار الإسلام؛ أي أن لهم حق المواطنة الكاملة.

ومع التحفظ اللازم على استعمال مفهوم المواطنة بدلالاته الدستورية الحديثة في إطار نموذج الدولة-الأمة (L’Etat Nation)، في سياق الحديث عن الذميين في التجربة التاريخية العربية الإسلامية، إلا أن ما قد يبرر ذلك، تجاوزا، هو ما عرفه الاجتماع السياسي الإسلامي في معظم مراحله، وما أقرت به النصوص المرجعية من مبدأ المساواة بين الجميع؛ “في الدم والدية وتحريم غيبة غير المسلم”.

وهو ما عبرت عنه القاعدة المشهورة: “لهم ما لنا وعليهم ما علينا”. وأكدته الآيات البينات من القرآن الكريم وهي تحث وتأمر المسلمين بالبر والعدل والإحسان في تعاملهم مع غير المسلمين. كما أكدته التجربة التاريخية، حيث غالبا ما كانت الدولة في التجربة الإسلامية تفسح المجال لأهل الذمة لكي يتولوا العديد من المناصب المرموقة.

فقد ولى معاوية جباية خراج حمص لطبيبه ابن آثال، وهي وظيفة حساسة. وقد ولى عبد الملك بن مروان أثناسيوس وهو عالم مسيحي تربية أخيه عبد العزيز. وعندما تولى عبد العزيز ولاية مصر أعطى له وظائف مهمة، من بينها رئاسة دواوين الإسكندرية، كما شغل منصب “متولي الخراج” على مصر كلها.

وقد أوضح أحمد أمين في كتابه “ضحى الإسلام” كيف ولى المعتصم في العصر العباسي مسيحيا يدعى “إبراهيم” الخزانة العامة للخلافة، وحفظ خاتم الخليفة. كما ولى أخاه “سلمويه” منصب أمين الوثائق الملكية. وفي العصر نفسه تولى مسيحي واسمه “إسرائيل” تنظيم الجيش العباسي. وفي خلافة المقتدر تولى مسيحي “ديوان الجيش”.

كما أبرز كيف أن اليهود والنصارى كانوا منتشرين في المملكة الإسلامية، وكانوا عددا كبيرا، فقد ذكر بنيامين احد رحالة اليهود الذين رحلوا سنة 1165م أي نحو سنة 560 هجرية “أن عدد اليهودية في المملكة الإسلامية غير العرب كانوا ثلاثمائة ألف” وكانوا منتشرين على نهر دجلة والفرات، وفي جزيرة ابن عمر والموصل وعكبرة وواسط وفي بغداد والحلة، والكوفة والبصرة، وفي كثير من بلاد فارس، في همذان وأصفهان وشيراز، وكانوا في غزنة وسمرقند، وكان في فارس بلدتان تسمى كل منهما “اليهودية”، إحداهما، بجرجان، والأخرى بأصبهان. وكان ببغداد إذ ذاك نحو ألف يهودي، وكان فيها درب يسمى درب اليهود، نسب إليه قوم من المحدثين منهم أبو محمد عبد الله بن عبيد الله بن يحيى اليهودي.

ومن مظاهر الانفتاح والاحترام العقائدي؛ أن بعض المسلمين في العصور الأولى كانوا يطلعون على الكتب الدينية لغير المسلمين، روى ابن سعد في الطبقات أن أبا الجلد واسمه جيلان بن فروة؛ كان يقرأ الكتب. وروى عن ميمونة بنت أبي الجلد قالت: كان أبي يقرأ القرآن في كل سبعة أيام ويختم التوراة في ستة، يقرؤها نظرا، فإذا كان يوم يختمها حشد لذلك ناس، وكان يقول: كان يقال تنزل عند ختمها الرحمة.

وفي الحديث عن أبي هريرة قال: “كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها لأهل الإسلام بالعربية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا، وأنزل إليكم وإلهنا واحد”. ويروون عن وهب بن منبه أنه كان يقول: “لقد قرأت اثنين وتسعين كتابا، كلها أنزلت من السماء، اثنان وسبعون منها في الكنائس، وفي أيدي الناس، وعشرون لا يعلمها إلا قليل”.

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *