شرعية الاختلاف في الإسلام - 3

الرئيسية » الأعمدة » تأملات فكرية » شرعية الاختلاف في الإسلام – 3

مقابل المواقف الإسلامية المعتدلة المتسامحة مع الآخر، والمستوعبة  للتعدد، والمؤمنة بالاختلاف نجد الخطاب الإحيائي يشدد على أن دعوة الإسلام إذا كانت “تقوم على تحقيق كامل نظامه، وإذا كان من دعواه أن نظامه هو الحق، وفيه سعادة الإنسانية وفلاحها، وأن كل نظام سواه باطل، فلابد، مع كل هذه الأمور، أن يطالب الإسلام أتباعه برفع راية نظامه وتنكيس راية كل نظام آخر في الأرض”.

بدعوى أن دعوة الإسلام إلى نظامه المخصوص المعالم للحياة الإنسانية تستلزم بحكم فطرتها أن يطالب أتباعه بأن يستأصلوا كل نظام في الأرض، ويقيموا مكانه نظامه وأن يأمرهم لتحقيق هذه الغاية باختيار كل طريق من طرق الجهاد والنضال يعينهم على تحقيقها، وأن يجعل العلامة المميزة لإيمان الناس وعدم إيمانهم: هل يسترخصون في هذا الجهاد والنضال كل ما يملكون من النفوس والنفائس، أم يقتنعون بالعيشة تحت النظم الباطلة؟”.( أبو الأعلى المودودي، الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة، الكويت: دار القلم للنشر والتوزيع، ط4، (1400ﻫ/1980م)، ص53-54.)

ومقابل اتجاه فقهي إسلامي معاصر يعطي لغير المسلمين، في إطار المواطنة، ودولة الحق والقانون والحكم المدني، القائم على المؤسسات المنتخبة، كافة الحقوق السياسية والمدنية بما فيها رئاسة الدولة، و اتجاه آخر، لا يمانع في تمتع غير المسلمين بكافة الحقوق المدنية والسياسية باستثناء الولاية العامة، والولايات الدينية، نجد أن الخطاب الإحيائي رغم اعتباره أن الطوائف غير المسلمة ستتمتع في الدولة الإسلامية بكل ما يتمتع به المسلمون فيها من الحقوق المدنية،  إلا أنه سرعان ما يعود ليحرمها من ممارسة الحقوق السياسية بدعوى أن “المسلمين عليهم وحدهم تبعة تسيير نظام الدولة في الإسلام. وهم مدعوون إلى تسيير نظام الحكومة وفقا لأحكام الكتاب والسنة حيثما نالوا سلطات الحكومة وصلاحيتها. وبما أن غيرهم لا يؤمنون بالكتاب والسنة، ولا بوسعهم أن يديروا نظام الدولة الإسلامية وفقا لروحهما بأمانة وإخلاص، فما للمسلمين أن يشركوهم معهم في هذه التبعة، على أن لهم أن يجعلوا إليهم مناصب ليس من شأنها المشاركة في وضع سياسة الدولة”.

والحاصل أن كل من يعرفون الثقافة العربية الإسلامية بعض المعرفة، لا يخطؤون الوقوف على واحدة من أبرز خصائصها الجوهرية ألا وهي الاحترام الديني للاختلاف الإنساني، وغني الخلق الإلهي بحيث ترتفع دلالة هذا الاختلاف بين الأنام على مستوى ألوانهم، ولغاتهم، ومظاهر زيهم وأشكالهم. لتغدو شاهدا وبرهانا على مدى الغني المعجز للخلق الإلهي وسعة علمه، وقدرته المطلقة. وهو ما تؤكده العديد من النصوص التأسيسية التي تجمع تفسيراتها على أن الاختلاف هو أصل الخلق مصداقا لقوله تعالى:﴿ ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين﴾ [ الروم: 22]

فالخطاب القرآني بهذا المعنى يمثل مدحا للتعددية Eloge De La Diversité واحتفاء بها على حد تعبير عبد الوهاب بوحديبة. كما أن الفقه الإسلامي يعد فقها للاختلاف بامتياز، ولذلك فلسنا ملزمين بقبول الاختلاف فحسب، وإنما احترامه وتقديره باعتباره انعكاسا لإرادة الخلق الإلهي، فالحياة نفسها عبارة عن اختلاف ممتد ودائم يقتضي الاعتراف بالآخر، والتسليم بالغيرية التي تعني لدى بوحديبة “التعايش مع احترام الفروق بالنسبة للأفراد والجماعات على حد سواء” ذلك أن الإيمان بالغيرية والتفاعل، تبعا لذلك، مع الأغيار يشكل عنصرا مكونا لتاريخ العالم والبشرية وهو ما يدلل عليه من خلال صيغة التفاعل الكامنة في “التواصي بالحق والتواصي بالصبر “الواردة في سورة “العصر ” ﴿ والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ﴾. وهكذا تسكن الغيرية، “في صميم الجوهر الإنساني، وتنبع من التدبير الكوني، وتضرب بجذورها في أعماق الأنطولوجيا الإسلامية”.

غير أن القول بالاختلاف والغيرية والتعدد لا يستتبع بداهة التسليم بالمساواة المطلقة بين الاغيار والمختلفين لا في النص ولا في التاريخ، على العكس من ذلك، فإن هذا الاختلاف وهذه الغيرية إنما يستدعيان التباين والتفاوت، ومن ثم التفاضل، غير أنه ليس تفاضلا ظالما؛ وإنما تفاضل “ناتج عن الممارسة التاريخية للفروق التي تتجلى بفضل الإيمان والمكاسب والأعمال الفردية والمساعي الجماعية”.

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *