شرعية الاختلاف في الإسلام - 2

الرئيسية » الأعمدة » تأملات فكرية » شرعية الاختلاف في الإسلام – 2

من عظمة الهدي النبوي أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر، عتر بين الغنائم على نسخ من التوراة فلم يتردد صلى الله عليه وسلم لحظة في الأمر بردها إلى أصحابها. وسيرا على نهجه نجد كيف أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه،قدمت إليه امرأة مشركة تطلب حاجة لها، فدعاها للإسلام، فأعرضت، فقضى لها حاجتها، وانتابه شعور عميق بالذب لعله يكون بدعوته هاته قد تصرف معها بما يوحي بالإكراه لها على الإسلام تحت ضغط الحاجة؛ فاستغفر الله على ما فعل، وقال: “اللهم إني أرشدت ولم أكره”.

وقد وجد هذا الهدي تمثلا رفيعا لدى كبار الفقهاء، لدرجة أن الإمام الشافعي اختلف مع الإمام أبي حنيفة حول مدى جواز مفاتحة الزوج المسلم لزوجته غير المسلمة في مسألة اعتناق الإسلام؛ فبينما رأى أبو حنيفة جواز ذلك بشرط عدم الإكراه، ذهب الشافعي إلى عدم جواز ذلك؛ معتبرا أن في عرض الزوج الإسلام على زوجته تعرض لها. في حين أن الإسلام قد ضمن بمقتضى عقد الذمة ألا يتم التعرض لهم. الأمر الذي يؤكد نزوع كبار فقهاء الأمة إلى احترام حرية الاعتقاد لغير المسلمين.

ومن مظاهر حرية الاعتقاد حق إقامة المعابد وممارسة الشعائر؛ ولاشك في أن هذا مظهر من مظاهر المساواة في الحقوق والواجبات. ولا يوجد في القرآن والسنة النبوية أي نص يقيد حرية غير المسلمين في إقامة معابدهم الخاصة أو يحول دون حقهم في أداء طقوسهم وشعائرهم..

ومن الوقائع التاريخية التي تدل على تمثل المسلمين والتزامهم بهذه القيم انسجاما مع روح عصرهم ومستوى تطور الحضارة الإنسانية؛ “صحيفة المدينة” سالفة الذكر، ومعاهدة القدس بين المسلمين والمسيحيين، وهي المعاهدة التي أبرمها عمر بن الخطاب والبطريرك صفروينوس عام 15 هـ، ومفادها كما وردت عن الطبري: “بسم الله الرحمن الرحيم.. هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم وسقيها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضام أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود. وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطى أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص. فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية. ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم، فإنهم على نفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم. ومن كان بها من أهل الأرض فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل أيلياء من الجزية، لمن شاء منهم سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله. وإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم. وعلى ما في عهد هذا البحث عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية”.

وكان الشافعي يرى؛ أنه يصح أن يشترك أهل الذمة من يهود ونصارى في الحروب مع المسلمين، أي أن يجندوا في الجيش الإسلامي، إذا رأى الإمام ذلك، واستدل بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعان في غزوة خيبر بعدد من يهود بني قينقاع كانوا أشداء، واستعان في غزاة حنين بصفوان بن أمية وهو مشرك..

ومن الإجحاف تقييم نظام أهل الذمة كنظام اجتهادي تاريخي دون الوعي بالسياق، ومقارنته تبعا لذلك مع نظام المواطنة الديمقراطي في معياريته المثلى، فلو قارنا نظام أهل الذمة، ووقفنا على أحوالهم في العالم الإسلامي بالنظر إلى أحوالهم في باقي أنحاء المعمور لاتضح لنا مدى تقدم هذا النظام على ما سواه من الأنظمة المعمول بها آنذاك.

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *