سحر الذاكرة

الرئيسية » الأعمدة » حروف » سحر الذاكرة

الذاكرة ذلك السر العجيب الذي به يستطيع الإنسان أن يراكم التجارب ويصاحبها بالتدبر والاعتبار، والتي اعتاد الجميع على اعتبار التاريخ أكبر سجل لأحداثها ومواقفها، في حين يبقى التاريخ تدوينا لا يحيط بكامل الحقائق ، بل هو مجرد علامات بلغتها حواس المؤرخين وخضعت لأفهامهم أثناء الجمع والسرد والرواية، ولذلك يبقى التاريخ تأولا للذاكرة وليس مرآة تعكس حيويتها، فالذاكرة أوسع وأوعب من التاريخ لأنها بمثابة وعاء تتلاقى فيه الألوان والروائح والعواطف والأحاسيس والأحداث والرموز والطقوس والألعاب والأحزان، وغير ذلك من التعبيرات عن الحياة التي تتمنع عن المسح أو المسخ ،حيث تبقى حاضرة تنبض بالحياة في المجتمعات ولو بعد مرور آلاف السنين واندراس آثارها المادية أو المرقومة.

ومن هنا كان التفاوت بين الحضارات تبعا لقوة أو ضعف رصيدها المخزون والمكتنز في هذا الجهاز العجيب الموسوم بالذاكرة ،والذي يعتبر أهل الفنون أكثر اقتدارا على تجلية معانيه البعيدة ومراميه النبيلة، لأن مدخلهم إليه هو الإبداع والإنصات الجمالي المرهف الذي يسافر في طبقات التذكر مقاوما آفة النسيان والتنكر، ومن ثم كان الإبداع بمختلف أشكاله أكبر محافظ على الذاكرة.

الجميل في الذاكرة هي أنها ليست ملكا لأحد، ولا ينبغي لأي كان أن يدعي حق تملكها أو استثمارها في الحاضر اغتصابا لقرون من العمل ولجهود أجيال، لأن الرهان الحقيقي والتنافس الإيجابي ،هو في كيفية بنائنا للحاضر ، واسستنفار قوانا من أجل ابتكار وسائل ترفع تحديات حاضرنا لتصير حلقة جديدة تنضاف باعتزاز إلى ذاكرتنا ، وليس بالبقاء عالة عليها ، فيتم جرها إلى حروب حاضر استقال فيه الفرد أو الجماعة عن النهوض بدوره ، فاصطنع خطاب الذاكرة لتناسي عجزه عن مواجهة واقعه الآني، باسم الهوية والخصوصية؟

فالمتأمل في تجارب السابقين يجد أنهم كانوا اكثر وعيا بحاضرهم، ويعملون وفق قيم ومعايير ارتضوها وعملوا وفق شروطهم على تفعيلها كليا أو جزئيا، ومن ثم كانوا يحيون حياتهم بامتلاء وبأفق لا يعرف الحدود، بحيث يصبحون مع مر الزمن جزءا من الذاكرة التي إذا ما أتى خلف من بعدهم ضيعوا كفايات الفعل والاجتهاد، واختراع الطرق الكفيلة بالاستمرار في الرقي والتقدم إلى الأمام، دون ارتكاسية للوراء أو بكاء على طلل أو استدعاء للأمجاد أو محاججة بذاكرة، فأصبح الحاضر هو الغائب الأكبر، وإذا ماضيعت حضارة بعدا من أبعادها الزمانية، والذي هو شرط تحققها الحضاري والواقعي والمسؤولة عنه ابتداء وانتهاء، فإن الأبعاد الأخرى كالماضي والمستقبل تعرف تزلزلا واضطرابا.

إن الزمان وحدة لاتنخرم عناصره التي بها يتحقق الوجود الإنساني، فللماضي سطوته، وللحاضر سلطته، وللمستقبل حظوته، ومسوولية الحفاظ على الهوية والتاريخ والذاكرة لا تتم بالمزايدة بها في الحاضر دون عمل مبدع في الحاضر يغنيها ويمنحها الحياة التي بها تزداد تولدا وتشكلا واستمرارا.

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *