دور الإصلاح الدّينيّ في تكييف العلاقة بين السّياسة والدّين

الرئيسية » الأعمدة » تأملات فكرية » دور الإصلاح الدّينيّ في تكييف العلاقة بين السّياسة والدّين

بدعوة كريمة من “منتدى حوار الحضارات والأديان والثّقافات” بدولة تونس الشقيقة، ومؤسّسة كونراد أيدناور شرفت بالإسهام بمداخلة حول موضوع: “دور الإصلاح الدّينيّ في تكييف العلاقة بين السّياسة والدّين: دراسة مقارنة بين التّجربة الغربيّة والتّجربة العربيّة الإسلاميّة”، وذلك ضمن ندوة علمية دولية حول:”الدّين وثقافة الدّيمقراطيّة ومفهوم الدّولة: الإشكاليّات والمقاربات” شاركت فيها نخبة متميزة من الباحثين من فرنسا وإيطاليا وألمانيا و المغرب والجزائر والبلد المضيف تونس.

وقد حاولت أن أبرز في ورقتي كيف أن الإصلاح الديني يمثل مدخلا حاسما في تدبير العلاقة بين الدين والسياسة باعتبارها علاقة تاريخية، وذلك انطلاقا من منظور مقارن خلصت من خلاله إلى أن الحداثة السياسية المعاصرة تجد أصولها التكوينية في الدين نفسه.

وفي هذا الإطار أوضحت كيف أن إصلاح الشأن الديني بالمغرب أسفر عن تكييف وظيفي مقاصدي ناجع للعلاقة بين الدين والسياسة انطلاقا من مؤسسة إمارة المؤمنين باعتبارها قطب الرحى للمؤسسات الدستورية الوطنية، ومصدر توافق وإجماع بين مختلف النخب بما فيها النخب الحداثية..

كما خلصت إلى أن المحددات التي حكمت هذه العلاقة في المجتمعات الإسلامية الحديثة تكاد تمثل مسارا معكوسا لما شهدته المجتمعات الغربية المسيحية منذ القرن السادس عشر؛ وتفسير ذلك أن مرحلة السيادة الدينية الإسلامية الوسيطة شكلت مرحلة بناء للإمبراطورية وتأكيد استقلالية الدولة والسلطان، وتأكيد مدنية رجل الدين.. كما شكلت مرحلة مفاصلة وتمييز واضح بين صلاحيات مجال الدين ومجال السياسة، وذلك بموازاة تمايز العلوم العقلية عن العلوم الدينية واستقلالها عنها.

وهو المعطى التاريخي والحضاري الذي جعل العصر الإسلامي الوسيط ينعت بعصر الازدهار والتنوير على النقيض من العصور الوسطى الأوروبية التي عادة ما توسم بعصور الظلمات التي تضافر فيها الاستلاب الديني النابع من طغيان الكنيسة والفكر اللاهوتي، بالاستلاب السياسي المرتبط بضعف الدول الملكية، ونـزعات الملوك والأمراء المتواصلة وهشاشة سلطاتهم، وبالاستلاب الاقتصادي والاجتماعي الناشئ عن غياب الإبداع والاكتشاف، ونقص المعارف، وسيطرة الجهل والأمية، ونقص التربية والتهذيب المدني والأخلاقي.

بالإمكان أن نفسر هذا الازدهار العلمي والسياسي والاقتصادي الذي طبع العصر الإسلامي الكلاسيكي بانتصار الدولة حتى في صيغتها السلطانية، على احتمال نشوء “كنيسة إسلامية” أو كهنوت إسلامي بما يحيل إليه من “سلطة دينية مركزية ومنظمة تحتكر الشرعية في القول والعمل في كافة مجالات الحياة”، وتفرض على أتباعها التقيد الحرفي بتعليماتها والركون إليها في كل ما يصدر عنهم من فعل أو قول.

وفي هذا الإطار فقد تم اعتبار أن التجربة الحضارية الإسلامية قد شهدت نشوء تقاليد ثابتة في بناء حقل الفضاء العام، وتحديد الصلاحيات الخاصة بعلماء الدين ورجال الحكم، ومجال عمل كل منهم ونفوذه؛ فاختص الفقهاء بالمسائل الدينية والفقهية منها بوجه خاص، واختص الحكام بكل ما يتعلق بميدان السيادة؛ من سلطة وقوانين وقرارات الحرب والسلام وسياسات المال والاقتصاد، والقضاء..

رغم أن السيادة تعود تاريخيا إلى السلطة الزمنية المتمثلة في رجال الدولة، إلا أن السلطتين، في حقيقة الأمر، قد تعايشتا، وهو التعايش الذي أسفر عن تفسير وتأويل للدين مختلف تمام الاختلاف عن حيثيات التجربة المسيحية البابوية؛ نظرا لقيامه على التسامح مع التعددية المذهبية، وتجنب التكفير، والقبول بالاختلاف في التأويل والتفسير للنصوص المرجعية بما فيها القرآن نفسه، كل ذلك في إعلاء واضح لمرجعية العقل.

وهو ما يترجمه ويكثفه، أحسن ما يكون التكثيف، مفهوم الاجتهاد الذي يجعل من العقل شريكا في فهم النص وتأويله، بل شرطا لهذا الفهم، ملغيا بذلك كل شرعية محتملة لسلطة لدنية ملهمة تملك التأويل الصحيح والوحيد للنص، كما يعبر عنها مفهوم العصمة البابوية وأحادية الرأي التي تمثلها..

ويصل التمايز بين التجربتين الحضاريتين والتاريخيتين العربية الإسلامية من جهة، والغربية المسيحية من جهة أخرى إلى الحد الذي يجري فيه نعث المناخ الذي حكم العصر الإسلامي الكلاسيكي بـ”المناخ الليبرالي”؛ بدعوى إتاحته لتبلور “فسحات من الحرية والانعتاق لم تعرفها المجتمعات المسيحية في القرون الوسطى، عمقت عند المؤمن شعورا بالمقدرة على المبادرة والمغامرة دونما خوف”، وفي ظل هذا المناخ الليبرالي لم يعد الدين دافعا لليأس والشك والقلق وعدم اليقين، ولا باعثا على التزهد والانسحاب من الدنيا والانكفاء على دور العبادة.. وإنما أصبح مناسبة لبعث الثقة في الذات..

وكان طبيعيا أن يحرر هذا التأويل طاقات الأفراد ويضفي على الوجود في هذه الحياة قيمة ومكانة أسمى، كما صار من مبادئ الإسلام رعاية شؤون الدنيا والآخرة، وتلبية حاجيات الجسد والعقل والروح معا، ليصبح البحث عن السعادة والطيبات قيمة أخلاقية ومكونا أصيلا من مكونات المنظومة التربوية الإسلامية.. تغذي “نـزوع الأفراد وطموحهم إلى العمل والإنتاج ومراكمة الثروات والاستمتاع بها”، توسيعا لدائرة الإنتاج والاكتشاف والإبداع اللازم لتحقيق كل ذلك.

وهو ما عبرت عنه أجلى تعبير ظاهرة الرحالة المسلمين بحثا عن المعرفة، وكذا تنقلات المتصوفة ارتيادا لعوالم روحية غنية وفريدة. وبالمقابل فإن غياب مثل هذه الحرية الدينية والفكرية كشرط لأية نهضة حضارية هي التي تفسر تحويل القرون الوسطى الأوروبية إلى حقبة مظلمة تفتقر فيها المجتمعات للنظام والاستقرار والمعرفة والحياة المدنية والأخلاقية، كما تفسر استغراقها في “الحروب الداخلية والخارجية والتوسع في سبيل السلب والنهب والسيطرة (الحروب الصليبية)”

ومع أن هذا الازدهار العلمي والفكري الذي طبع العصر الإسلامي الوسيط وميزه عن نظيره الأوروبي حدا بالعديد من الباحثين إلى القول بوجود بذور علمانية في الفكر العربي الإسلامي، إلا أن وجود نـزعات وتوجهات عقلية تعلي من شأن الاجتهاد والرأي على حساب الإتباع والنقل لا يعني بالضرورة وجود العلمانية بالمعنى الحديث للمفهوم.

وتفسير ذلك أن الإشكالية لم تكن مطروحة في الفكر الإسلامي أصلا كما لم تكن مطروحة في الفكر اليوناني الكلاسيكي؛ بفعل غياب أي تحدي موضوعي لسلطة الكنيسة كسلطة طامحة إلى فرض سيادتها العليا على السلطة الزمنية. غير أن هذا لا يعني نفي حقيقة وجود العديد من مظاهر وأشكال التمييز بين السلطتين الدينية والسياسية في التجربة التاريخية العربية الإسلامية، وهو تمييز تم بصورة عفوية وطبيعية طالما استقرت السيادة أو السلطان الأعلى لرجل الدولة لا لرجل الدين..

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *