دوتي: الأنثروبولوجي الكولونيالي الذي عشق الغوص في الظواهر الاجتماعية بالمغرب

الرئيسية » حياة وتكنولوجيا » دوتي: الأنثروبولوجي الكولونيالي الذي عشق الغوص في الظواهر الاجتماعية بالمغرب

يعتبر السوسيولوجي والأنثروبولوجي إدموند دوتي عالِما موسوعيا بحق كما أطلق عليه أحد كبار المختصين في حقل الأنثروبولوجيا الكولونيالية، على اعتبار أنه لامس الأنثروبولوجيا الطبيعية، وعلم المعادن، وعلم اللهجات، والسوسيولوجيا، وكان أحد أبرز دارسي ظاهرة السحر والدين بشمال إفريقيا وبالمغرب تحديدا

 كان عصاميا وذا موهبة خارقة

الظواهر الاجتماعية بالمغرب

هو إدموند دوتي (Edmond Doutté)، السوسيولوجي المنتسب إلى مدرسة الجزائر كما وصفه آلان مسعودي؛ ولد ﴿1867-1926﴾ بمدينة إيفرو الفرنسية، وسينهي دراسته بمنطقة شالون سيرمارن الفرنسية، حسب الاسم المعروف في القرن 18، التي أصبحت تسمى اليوم شالون أون شومبان، التي تقع شمال شرق فرنسا على مقربة من ألمانيا. وكان أبوه يدرّس هناك في قسم الفلاحة. لكن ابنه سيختار مسارا آخر، حيث درس علم المتاحف بباريس، و العلوم الطبيعية  ثم الآداب.

أُلحق بالحكومة العامة في يناير 1892، كإداري مساعد في الأوراس الجزائرية، لكن ظروفه الصحية جعلته يطلب الانتقال إلى وهران كمحرر سنة 1894. وخلالها تابع دراسته على يد مولييراس في الكرسي العمومي. وحصل على إجازة/عطلة من أجل تحضير لدبلوم مدرسة الآداب، وقد استجاب العمل الذي أنجزه لانتظارات رينيه باسيه. وهذا النجاح جعله سنة 1898 يصبح أستاذا للآداب بمدرسة تلمسان الذي كان  يديرها آنذاك ويليام مارساي.

كُلف سنة 1899-1900 بمهمة إنجاز قائمة المخطوطات العربية للمساجد الجزائرية. وبعدها مباشرة أُرسل إلى المغرب بين سنتي 1900 و 1901، لدراسة المناطق التي لم تتصل بعدُ بالحداثة الأوربية، والإعداد أيضا لإدماج المغرب في دائرة التأثير الفرنسي، وأسفر هذا العمل عن تقرير بعنوان “وسائل تطوير التأثير الفرنسي في المغرب 1900”. والأهم من وجهة نظر جزائرية، تأمين الطريق الأفضل للنفاذ الفرنسي، وطبع هذا الأسلوب براغماتية تفتقد اللياقة كما يقول آلان مسعودي. وتتالت بعد ذلك البعثات، إلى فيكيك سنة 1902، وغيرها.

شغل سنة 1901 منصبين في نفس الوقت، الأول في مصلحة المنشورات العربية للحكومة العامة في الجزائر، والثاني إلقاء دروس العامية العربية في مدرسة الآداب. وفضله جورج فير سنة 1903 لشغل كرسي التاريخ المعاصر للجزائر، وعوضت دروسه في اللغة بدروس تاريخ الحضارة الإسلامية في سنة 1905- وهي ما شكلت كتاب السحر والدين-. ولم ينجح في تأسيس كرسي تاريخ الإسلام الإفريقي أو السوسيولوجيا الأهلية بعد محاولته ذلك. سيشغل بعد الحرب العالمية الأولى كرسي المدرسة الكولونيالية، وفي نفس الوقت كرسي العلوم السياسية، أصبح عضو المعهد الإثنولوجي، وعضو مؤسس لأكاديمية العلوم الكولونيالية.

أصبحت مهامه العلمية إلى المغرب أساسية في وقته، حيث نشر في مجلة “تعليمات كولونيالية”، ونشر كتابه “مراكش” سنة 1905 بموافقة لجنة المغرب، وفيه مساره من الدار البيضاء إلى مراكش، مرورا بأزمور، ودكالة، والرحامنة. وأرفق ذلك بعدة صور. وأصبح دوتي يزور المغرب كل خريف مابين 1906 و1909، رفقة مرافقيه المحليين الوفيين سي علال العبدي، و سي بومدين بن زيان، ودعمت تلك الزيارات ماديا من قبل الإقامة العامة للشؤون الأهلية، علما أن هذا العمل كان جزءا من مشروع كبير، وبتشجيع من جمعية الجغرافيا التجارية للاتحاد الكولونيالي.

سينشر سنة 1900 مقاله الهام “ملاحظات حول الإسلام المغاربي: الأولياء”، بمجلة تاريخ الأديان في عددين متواليين؛ وجاء المقال بعد 15 سنة من كتاب لويس رينان المعنون بـ”الأولياء والخوان”.

لقد جدد المنظور، مع الأخذ بعين الاعتبار أعمال كولدزيهر، وسنوك هاركرونج، وأيضا الأبحاث الإثنوغرافية حول المغرب التي أنجزها مولييراس، ولامارتينيير، ولاكروا، وشارل دوفوكو. ولِما لا أيضا إدوارد فيسترمارك، الذي لم يسبق أن عرفه. لقد لخص أوليات طقس الصلحاء الموروثة من العمق الديني الـ”ما قبل إسلامي”.

كان دوتي تلميذا وفيا لاسمين كبيرين، اعتمدهما في دراساته، الأول: هنري باسيه، الذي أهداه دوتي كتابه “الدين والسحر” بالعبارات التالية: “إلى السيد هنري باسيه، مدير المدرسة العليا للآداب بالجزائر”، تكريما واعترافا”. والثاني: أوجست مولييراس، صاحب كتاب “اكتشاف المغرب”، وأستاذه في الرحلة. وكلا من هذين العالمين ينتميان إلى ما يسمى المدرسة الجزائرية.

وتوفي في باريس سنة 1926، عن سن تناهز التاسعة والخمسين، وهو يستعد لبدء إحدى رحلاته إلى المغرب.

أعماله..

دوتي: الأنثروبولوجي الكولونيالي

 أحصى أندري آدم في البيبليوغرافيا النقدية 12 عملا من تأليف إدموند دوتي. وتنقسم إلى ثلاثة أنواع؛ الأولى، عبارة عن رحلات استكشافية إلى عدة مناطق في المغرب، وهي ست أعمال. والثانية، وهي ثلاث تناقش ظواهر اجتماعية محددة، مثل: عيد الطُلبة، أو التنظيم المنزلي، أو سقوط السلطنة. والثالثة، دراسات تتعلق بظواهر دينية مباشرة، أحدها المعنون بـ”ملاحظات حول الإسلام المغاربي: الزوايا” 1900. والثاني، “كومة الأحجار المقدسة وبعض الممارسات المتعلقة بها في جنوب المغرب” 1903. ثم الكتاب الأهم “السحر والدين في إفريقيا الشمالية” 1909. ويمكن أن نضيف ست مراجعات حول الإسلام والمغارب في مجلة “السنة السوسيولوجية” وذكرتها لوسيت فانسيت.

وسيرا على منهجه في اعتبار السوسيولوجيا تبدأ مع الحماية سنة 1912، لم يدرج عبد الكبير الخطيبي، إدموند دوتي ضمن الباحثين السوسيولوجيين.

وفي العمل التركيبي لجاك بيرك ، سيصف كتاب “السحر والدين في إفريقيا الشمالية” بـ”الكتاب العظيم”، وأنه “محاولة أولى من أهم ما كتب إلى اليوم في هذا المجال في المغرب العربي”، وسيلخص صاحبه بالعبارات الدالة التالية: “ملاحظ نافذ، ورحالة متيقظ، وجدُّ متفطن لتصحيح المعرفة عبر الخيال، وجدت فيه الإثنولوجيا الإنجليزية والسوسيولوجيا الفرنسية مطبِقا منَظما”. ما يدفع بيرك لهذا الوصف الأخير طبيعة الأعمال التي كانت قبل دوتي، مثل أعمال إدوار فيسترمارك، وهنري باسي، وإيميل لاووست، التي لا تضاهي عمله لا من حيث جمع المعلومات، ولا من حيث طريقة العرض، وهما الأمران اللذان لم يتطورا إلا مع “الكتاب العظيم” لدُوتي.

وتشير الباحثة الفرنسية لوسيت فالنسي إلى الحفاوة البالغة التي استقبلت به المدرسة الفرنسية دراسات إدموند دوتي، وتجلت في المراجعات المتعددة على صفحات مجلة “السنة السوسيولوجية”؛ فبدءا من 1904، في الجزء السابع للمجلة، راجع هوبرت  مقاله “الأكوام المقدسة…”. وفي 1906 راجع إيميل دوركهايم مقاله “التنظيم المنزلي…”. وفي سنة 1907 سوف يخصص مارسل موس قراءة في كتاب “مراكش”، واعترف بتقدير أن دوتي اشتغل على قضايا طرحتها مجلة “السنة السوسيولوجية”، وانتقده في عدد من القضايا. بعدها بثلاث سنوات قام ر.هرتز بقراءة حول كتاب “الدين والسحر”.

إضافة إلى أنه تميز بالرحلة القائمة أساسا على الملاحظة الدقيقة، والتدوين المستمر لمختلف المعلومات. وقد كانت رحلاته الست إلى المغرب كافية لجمع المادة العلمية للخوض باقتدار في “السحر والدين في إفريقيا الشمالية”. على هذا الأساس وصفته لوسيت فالنسي بـ”العالم الموسوعي”، لأنه “لامس الأنثروبولوجيا الطبيعية، وعلم المعادن، وعلم اللهجات، والسوسيولوجيا؛ إنه عصامي وموسوعي، وبموهبة كبيرة؛ إن عمله قاوم بشكل لافت مرور الزمن، ومازلنا نعود إليه للاستفادة”. ورغم كل التخصصات التي تحدث فيها دوتي فإنه يبقى حسب رولان لوبيل “اختصاصي في المسائل الدينية بإفريقيا الشمالية”.

وسيتواصل اهتمام بعض الباحثين المعاصرين بدوتي، مثل محمد الدهان أستاذ علم الاجتماع بجامعة محمد الخامس، الذي خصص في بحثه لنيل دبلوم الدراسات العليا حول العلم والإيديولوجيا في الأنثروبولوجيا الاستعمارية صفحات هامة لتحليل كتاب السحر والدين في إفريقيا الشمالية، ورحلتي دوتي “مراكش” و”في القبيلة”. بعد هذا البحث توالت اهتمامات الأستاذ الدهان البحثية حول الأنثروبولوجيا الكولونيالية عامة، وإدموند دوتي خاصة. وسيشارك سنة 2003 بدراسة حول “المسار الإثنوغرافي لإدموند دوتي في جنوب المغرب”، في ندوة دولية بجامعة محمد الخامس في موضوع: “السفر في العالم العربي الإسلامي:التواصل والحداثة”.

ملاحظات حول الإسلام المغاربي: الأولياء (Notes sur l’islam maghrébin : les Marabouts)

 نشر إدموند دوتي “ملاحظات حول الإسلام المغاربي: الأولياء” في مجلة تاريخ الأديان، السنة العشرون، الجزء الرابع، بباريس، منشورات إرنست لورو، سنة 1899، باللغة الفرنسية، ولا تتوفر أي ترجمة للمقال إلى اللغة العربية على الأقل.

يتناول دوتي في هذه الدراسة ظاهرة تقديس الأولياء في المنطقة المغاربية، ويعرض دوتي لهذه الظاهرة متسائلا، ومفسرا أسباب انتشارها في البيئة المغاربية المسلمة لدى العامة.

ويستحضر دوتي وجهة نظر م. لابي الفلسفية، بأن تقديس الأولياء راجع بالضرورة إلى ذلك الإحساس الديني الذي يدفع العامة إلى “تصور الله و تخيله كما يحبون.. إنه انتقام القلب و الخيال من التجريد التوحيدي”ص.353.

واعتمد دوتي كتبا مهمة حول المغرب مثل أعمال مولييراس، ودولامارتينيير، ودولاكروا، ودوفوكو. ويشير أيضا أن هذا العمل غير مكتمل لأنه مازال يحتاج إلى مصادر مكتوبة بالعربية، وكذلك إلى الملاحظة والمعطيات الشفوية، ويطرح سؤالا هاما عن قيمة الشهادات التي نعتمدها من وجهة نظر التاريخ الديني فقط. وهذا النضج التوثيقي كان قريبا من أعين المدرسة الدوركهايمية، التي ستحتفي بكتابه “السحر والدين” ولذلك كان يذكر مصادره بدقة كما في المقال الذي بين أيدينا.

المجتمع المغاربي المسلم: السحر والدين في إفريقيا الشمالية Magie et religion dans l’Afrique du Nord

 هذا الكتاب في الأصل دروس ألقاها إدموند دوتي في المدرسة العليا للآداب، التي كان أستاذا بها في الجزائر، وبدأت في دجنبر 1905، وهو تاريخ إلقاء المحاضرة الأولى التي قدم بها الكتاب. وفي سنة  1909 نشر الكتاب بالجزائر عن مطبعة تيبوغرافي أدولف أوردان. وسيعاد طبع الكتاب بباريس سنة 1994 عن دار ميزونوف وغوتنر.

وبعد قرن من تأليف إدموند دوتي لمؤلفه “الدين والسحر في إفريقيا الشمالية”، قام الناقد الأدبي فريد الزاهي، الباحث بالمركز الجامعي للبحث العلمي، جامعة محمد الخامس-السويسي، بترجمته إلى العربية سنة 2008. وصدر عن دار مرسم للطبع والنشر بالدار البيضاء. وبفضل هذا العمل حصل على جائزة الأطلس الكبير لأحسن ترجمة سنة 2008، التي تقدمها وزارة الثقافة المغربية، ومصلحة التعاون الثقافي بسفارة فرنسا بالمغرب. وهي فعلا ترجمة تستحق التنويه لدقتها البالغة، وسلاسة العبارة العربية المستعملة، وتكفي الإشارة أن الهوامش أيضا قام بترجمتها.

يقول إدموند دوتي “إن موضوع الكتاب الحالي يتعلق بنشأة الفكرة السحرية والمقدس” ، وإذ يؤكد أنه يهتم بالفكرة الدينية، فهو يشير أنه لم يقف عند دراسة المقدس المشخص، أي الأولياء وغير ذلك. ولم يتناول أيضا “تاريخ الدعوات والصلوات وأصولها”، إذ أجل الحديث فيها.

كتاب “الدين والسحر”…

 كان يعي إدموند دوتي أهمية العمل الذي يقوم به في سياق الدراسات السابقة، ظهر ذلك في التوطئة التي يقول فيها:” تتمثل الفكرة العامة لهذا الدرس في تطبيق النظريات التي بلورها منذ نصف قرن الإثنوغرافيون، وخاصة المدرسة الأنثروبولوجية الإنجليزية والمدرسة الفرنسية، على الظواهر الدينية الملحوظة في إفريقيا الشمالية”. ويعترف منذ البداية أن العديد من تفسيراته تبدو هشة، لكن الأهم بنظره تقديمه النسقي المؤقت للمعلومات التي أوردها. كما أنه يقر بعدم ملاءمة النظرية الطوطمية لتفسير الحضارة الإسلامية التي يدرسها، والتي يعتبرها أكثر تطورا من حضارات أخرى طبقت عليها تلك النظرية.

يتطرق بعد ذلك إلى الفرضية التي سادت في وقته لدراسة الديانة الإسلامية، التي تركز على التأثيرات وما تمتحه حضارة من أخرى. ويقصد النظرية التطورية التي تبناها تايلور ومرغان، وفرايزر. وفرضية البقايا الوثنية التي طرحها إدوار فيسترمارك. غير أنه يستدرك عليها قائلا: “فقد سعينا قبل كل شيء إلى تقديم العلة السوسيولوجية والسيكولوجية للمؤسسات وتطورها منذ القدم، مهما تكن المنطقة التي صدرت عنها” .

وختاما يمكن القول أن أبرز ما يميز أعمال إدموند دوتي، كتاب “السحر والدين في إفريقيا الشمالية”، إذ يدشن به لبداية أنثروبولوجيا الإسلام في المغرب العربي. أما الكتب الأخرى، خاصة الرحلات فإنها لم تكن جديدة من حيث المنهج، إذ سبق لمولييراس، وشارل دو فوكو، وألفرد لوشاتوليي أن قاموا بمثلها. غير أن كل تلك المعطيات التي سيجمعها دوتي سيوظفها بشكل نسقي في “السحر والدين”. والأهم أن دوتي قد تجاوز من خلال هذا البحث المجال الخاص بالظواهر الدينية، ليقترح تصورا أنثروبولوجيا كاملا للثقافة المغربية التقليدية وعلاقة الإنسان المغربي بهذه الثقافة”.

وقد اصطبغت أعمال دوتي بمنهج تأويلي غير خاف، يلخص ذلك الباحث المغربي حسن رشيق  في السمات التالية؛ القيام بوصف جزئي للظواهر المدروسة؛ البحث عن معنى الطقوس المدروسة باستلهام الإثنوغرافيا المقارنة.

نورالدين اليزيد (بتصرف عن أرنتروبوس)

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *