حول الآخر

الرئيسية » الأعمدة » حروف » حول الآخر

كتب  الكثير من الأبحاث والدراسات، وعقد العديد من المؤتمرات والمنتديات الكبيرة والصغيرة حول “الآخر” ، تتناول حده وتعريفه، وتستفهم عن موضوعه، وترصد مساره التاريخي، وتعتبر بمواقفه إيجابا و سلبا إقبالا و إدبارا.

فالآخر، وهو غيرالذات، مختلف صورة ومعنى، وفي المجال الإنساني يبدأ هذا الآخر في التشكل والتنوع والتعدد، انطلاقا من الفرد الذي يدرك “آخرَ” تجمعه به صفات وأفعال وعلاقات يقتدر بها على تمثل ذاته الجماعية، لتبدأ رحلة الكشف والاكتشاف لعناصر الائتلاف والاختلاف، فتتميز الإنيات والهويات بفعل الوجود والمعرفة والتاريخ.

فالمقصد من تعدد الشعوب والأمم، واختلاف أديانها وأعراقها ولغاتها وأعرافها هو التعارف وليس التجاهل، فمن تجاهل موجودا، مهما صغر في عينه طبقا لمعاييره الذاتية، يرتكب خطيئة حضارية تزج بالإنسان في غياهب الاستعلاء والغطرسة والتدمير و الهلاك، لأنه يصير في مقام الإيمان بالذات، مصدرا للحقيقة والمعرفة والاعتراف بوجود الآخر أو إعدامه، مما يكون مبررا للقتل والجريمة في حق الإنسانية البريئة.

إن التعارف سبيل للتعرف على مكتسبات الشعوب، والاطلاع على خبراتها وحكمتها الحياتية التي راكمتها منذ غابر الأزمان، لأنها تبقى في النهاية كسبا وملكا إنسانيا لايمكن لأي كان التصرف فيه إلا بوجه حق، ذلك الحق الذي يميز الخبيث من الطيب والنافع من الضرر، بتحكيم معايير حفظ الحياة ونفي كل ماعداها من صنوف الإقصاء والإلغاء.

فكم هو جميل ذلك الكلام المعسول عن الآخر، وضرورة الإيمان بالاختلاف، والتخلق بقيم الحوار، غير أنه عند الامتحان العملي والميداني سرعان ما تطفو نزعات حب الذات والأنانية، فيقف المتدبر على وجوه في العلاقة بالآخر، مبناها على التسلط أو التملك، أو هي ليست إلا تعبيرا عن امتداد الذات في الآخر، وبسطا لسلطانها عليه، بحيث يحد من حريته ويستولي على كيانه الحميمي المستقل، إذ يصبح عبارة عن “غيرٍ” موجودٍ وجودا اعتباريا، ولكنه أفرغ من كل أنواع الامتلاء الذي تشكل هويته الجمالية و الجلالية باعتباره إنسانا مكرما.

إن التعامل مع الآخر بالمعنى التعارفي والمعرفي والأخلاقي الإنساني يتطلب عدة منهجية شاملة، تتضافر فيها جوانب التنشئة والتربية والتأهيل والتكوين، وتستطيع ابتكار لغة لا تقف فقط عند استبدال مصطلحات الوصم والتمييز بأخرى تكون أكثر “حيادية” و” صمتا” حيال الآخر، لأن مثل هذه اللغة الصماء تحول دون الدينامية التقويمية التي بها يكون الإنسان إنسانا، وهذه الفاعلية التقويمية هي التي جعلته متميزا عن الحيوان بكفايته التي تجعله كائنا مقوما لواقعه، مستشرفا لآخر تتحقق فيه إنسانيته، ومن هنا كان التعارف تشاركا في الارتقاء بوصف الإنسانية إلى أبعد الحدود، حيث تضمحل الفروق بين الأنا والآخر، لتصير كنها واحدا لا تشتته الأهواء، وتفرقه المصالح، لأن أمانة التعارف تنبعث منها لغة حية تخاطب العقل والوجدان، وتنبجس منها جداول الإحساس بالمسؤولية الكبرى، لتكون بمثابة نبع يغترف منه الآخر وينتفع، وهو المعبر عنه بالاستعمار والاستخلاف الإنساني في أرض الابتلاء، لأن الاستعمار في هذا السياق هو إعمار ونماء وتحرير “للآخر”، ذلك الآخر الذي ليس إلا “أناً” بحكم أمانة الاستخلاف المسؤول.

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *