كان على الضمير الجمعي في عالم منتصف الأربعينيات في القرن الماضي، أن يمعن التفكير في كل هذا الدمار الذي أصاب الإنسان وبيئة الإنسان عقب الحرب العالمية الثانية، وأن يلتمس منفذاً يمكن أن يفضي، كما كان الناس يأملون، إلى عالم أكثر تعقلاً وأشد حرصاً على إقرار مبادئ راسخة ومستنيرة لعلها تكفل للبشرية ما كانت تطمح إليه من صفاء أو سلام.
واستغرق هذا التفكير نحواً من سنوات ثلاث، هي تلك الفاصلة بين انتهاء الحرب الثانية في صيف 1945 وبين شتاء عام 1948.
هنالك، وبالتحديد في اليوم العاشر من ديسمبر، الشهر الختامي من سنة 1948، تسامع العالم كله بأخبار الوثيقة المحورية التي أذيعت تحت العنوان التالي: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وهو الإعلان الصادر عن الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة التي كانت أيامها تدرج في سنوات طفولتها الأولى، ثم طرأت مستجدات.
ومن يومها ظلت حقوق الإنسان تشغل موقعاً محورياً في بؤرة اهتمام سكان عالمنا، لكن المشكلة أنه طرأت- مع مرور الأيام- مستجدات ومتغيرات على فهم وتفسير- ناهيك عن تفعيل- حقوق الإنسان التي ما لبثت أن تجسدت، كما هو معروف، في جمعيات وهيئات ورابطات وزعامات لا تزال تمارس أدوارها بالسلب وبالإيجاب حتى كتابة هذه السطور.
ومن هنا أيضاً، كان لا بد من جهود تستهدف تقويم وتصحيح ما طرأ على حقوق الإنسان من مشكلات، بل ومن سوء فهم أو تشوهات في بعض الأحيان.
في ضوء هذا كله تأتي أهمية الكتاب الصادر أخيراً: «حركة حقوق الإنسان الجديدة».
وبديهي أن وصف «الجديدة»، إنما ينصرف إلى الحركة التي أسسها مؤلف الكتاب وهو المثقف والناشط السياسي الأميركي، بيتر جوزيف، الذي لا يفتأ أفراد الجمهور داخل الولايات المتحدة وخارجها يتابعون دعوته إلى تبنّي فهم جديد ومعاصر لحركة حقوق الإنسان في ضوء المتغيرات التي لا تزال تترى في عصرنا الراهن، وذلك من خلال المقالات التي ينشرها والمقابلات التي تجريها معه كبريات الصحف وميديا الإعلام المرئي والمسموع في طول الولايات المتحدة وعرضها، بل إن جماهير المثقفين المهتمين بقضايا حقوق الإنسان، يولون اهتمامهم أيضاً بالحركة السياسية التي يقوم المؤلف على أمرها، وتحمل اسماً مشتقاً من الأدبيات السياسية الألمانية، وهو: «زايتجست»، ومعناها: «روح العصر».
وتذهب مقولات الكتاب الذي نعايشه في هذه السطور إلى أن سنن التطور السياسي- الاقتصادي- الاجتماعي في هذه السنوات الاستهلالية من القرن الحادي والعشرين، أو فلنقل مقتضيات «روح العصر»، باتت تقتضي بالضرورة الأخذ بمفاهيم جديدة ورؤى مبتكرة في مضمار التعامل مع حقوق الإنسان ومع متطلبات الحياة الأفضل أو الأكرم للبشر فوق سطح كوكبنا الذي باتت تتناوشه، كما قد نقول- أدواء تلوث البيئة وتناقص الموارد الطبيعية وتغيرات المناخ، بحيث لم يعد يصلح اتباع الأساليب التقليدية المعتادة التي عفى عليها الزمن من أجل مقاربة ما أصبح سكان كوكبنا يواجهونه أو يكابدونه من أزمات ومشكلات.
والمعنى الجوهري الذي لا يلبث مؤلفنا أن يؤكده عبر فصول وصفحات الكتاب إنما يتمثل، في ما يلي: أن لم يعد ثمة مجال للعزلة في عالم أصبح يزداد تواصلاً وترابطاً وخضوعاً لتأثيرات متبادلة عبر الأقطار والقارات.
ومن هنا أصبح لزاماً على كل امرئ يهمه مستقبل البشر، أن يدعو إلى، ويشارك في بلورة وإرساء مفهوم لا بد وأن يقول بما يلي: «إذا ما انحسرت مياه المحيطات، وإذا ما تصدعت هياكل المجتمعات، وإذا ما خرج تغير المناخ الكوكبي عن حدود السيطرة، يصبح النجاح الشخصي لهذا الفرد أو ذاك، أو لهذه الأمة أو تلك، أمراً بغير طائل أو معنى».
لهذا يشدد مؤلف الكتاب على دعوته إلى معاودة التدبر والتأمل بشأن التوصل إلى نهج مبتكر تماماً، إزاء التفكير في مشاكل البشرية مع مرور سنوات هذه الحقبة التي نعيش فيها: لا بد إذاً من نهج تحديثي وابتكاري في التعامل مع مشكلات زماننا التي لا تزال تعصف بالبشر: ما بين الفقر الاقتصادي والقهر الاجتماعي إلى الاعتلال الذي يبدأ بصحة الإنسان ولا ينتهي عند صحة الكوكب ذاته.
في هذا المضمار لا يفوت مؤلف الكتاب أن يعزز المقولات التي يناقشها والنتائج التي يتوصّل إليها، عبر صفحات الكتاب، بأسانيد مستقاة من نتائج البحوث والدراسات التي تَوفّر على إجرائها من واقع مؤلفات وأدبيات موثوقة مدعمة بالبيانات، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
هذه الجهود العلمية التي بذلها المؤلف هي التي أسفرت عن بلورة وتشكيل العديد من الرؤى الصحية والصحيحة أيضاً بالنسبة لإضاءة فكر القراء وتزويدهم بإمكانات الدرس والوعي المستنير لأبعاد الواقع الذي يعيشون فيه، وأيضاً لآفاق المستقبل الذي يطمحون إليه.
وفي عموم أبحاث الكتاب، نجد أنه يركز على ضرورة صوغ وإيجاد شبكة علاقات مجتمعية وإنسانية دولية عامة، على مستوى الأفراد والدول، تستند إلى مجموعة من الأسس الراسخة والمناهج العملية التي تفي بغرض التغلب عن أزمات البؤس والعوز وغياب الديمقراطية في عالمنا.
البيان